سورة آل عمران (من الدرس الثالث والعشرين إلى الدرس السادس والعشرين)

سوف نتابع لكم في هذه السطور بقية دروس سورة آل عمران وذلك من الدرس الثالث والعشرين وحتى السادس والعشرين بالترتيب، فاقرؤها بتمعن عسى الله أن يفيدنا وإياكم بها
الدرس الثالث والعشرون من الأية (96 – 97) سورة آل عمران
تحدثت هذه الآيات عن منزلة البيت الحرام وفريضة الحج
التفسير والبيان
- (96) (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) قالت اليهود للمسلمين بيت المقدس قبلتنا وهو أفضل من الكعبة وأقدم وهو مهاجر الأنبياء وقال المسلمين بل الكعبة أفضل فأنزل الله الآية أي إن أول بيت وضعها الله متعبداً للناس وقبلة للصلاة وموضعاً للحج والطواف سواء العاكف فيه والباد لهوا الكعبة التي بناها ابراهيم عليه السلام بمكة وأنتم تزعمون أنكم على دينه ومنهجه فكيف لا تصلون إليها ولا تنسكون فيها مؤمنين بشريعته (بِبَكَّةَ) لغة في مكة والميم والباء يتعاقبان لغة كما في لازم ولارب (مُبَارَكًا) كثير الخير والنفع لمن حجه أو اعتمره أو اعتكف فيه أو طاف حوله لمضاعفة الثواب والعبادات فيه من البركة وهي النماء والزيادة .
- (97) (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ) على حرمته ومزيد فضله منها أن الآمر ببنائه الرب الجليل وبانيه ابراهيم الخليل وهو مهبط الخيرات ومصعد الطاعات ومنها الحجر الأسود والحطيم وزمزم والمشاعر كلها ومقام ابراهيم وهو الحجر الذي قام عليه أثناء البناء ومنها: اهلاك من قصده من الجبابرة بسوء كأصحاب الفيل وغيرهم وعدم تعرض ضواري السباع للصيود فيه ومنها أمن من دخله، (مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ) وقد كان ملتصقا بجدار البيت حتى أخره عمر بن الخطاب (ض) في خلافته إلى ناحية المشرق حيث هو الآن ليتمكن الطائفون من الطواف وليصلي المصلون عنده دون تشويش عليهم من الطائفين، (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) الضمير المنصوب عائد إلى البيت بمعنى الحرم كله بقرينة أن بعض هذه الآيات موجود في كل الحرم لا في خصوص البيت فهو من باب الإستخدام وهو ذكر اللفظ بمعنى وإعادة الضمير إليه بمعنى آخر والمراد أمن من دخله في الدنيا وفي الآخرة، (وَمَن كَفَرَ) أي جحد فريضة الحج فلم ير فعليه براً ولا تركه مأثماً.
الكلمات التي وردت في القرآن لأكثر من وجه
(بيت) وردت على (8) أوجه
- الوجه الأول: وردت بمعنى الكعبة قال تعالى (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ…) (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ…) (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ).
- الوجه الثاني: وردت بمعنى المنازل قال تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ…) (أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ…) (لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ…) (فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا).
- الوجه الثالث: وردت بمعنى المساجد قال تعالى (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ).
- الوجه الرابع: وردت بمعنى المنزل في الجنة قال تعالى (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ).
- الوجه الخامس: وردت بمعنى العش قال تعالى (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا) (كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا).
- الوجه السادس: وردت بمعنى الخيام قال تعالى (مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ).
- الوجه السابع: وردت بمعنى الكهوف قال تعالى (وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِين).
- الوجه الثامن: وردت بمعنى البيت المعمور قال تعالى (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُور).
وقفات مع الآيات
- الوقفة الأولى: (قُلْ صَدَقَ اللّهُ…) ولعل الإشارة هنا في قوله (قُلْ صَدَقَ اللّهُ) يعني ما سبق تقريره في هذا الأمر من أن هذا البيت بناه ابراهيم واسماعيل ليكون مثابة للناس وأمنا وليكون للمؤمنين بدينه قبلة ومصلى ومن ثم يجيئ الأمر باتباع إبراهيم في ملته وهي التوحيد الخالص المبرأ من الشرك في كل صوره (فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين).
- الوقفة الثانية: إن اليهود كانوا يزعمون أنهم هم ورثة ابراهيم فها هو القرآن يدلهم على حقيقة دين ابراهيم وأنه الميل عن كل الشرك ويؤكد هذه الحقيقة مرتين: مرة بأنه كان حنيفا ومرة بأنه ما كان من المشركين فما بالهم هم مشركون.
- الوقفة الثالثة: ثم يقرر أن الإتجاه للكعبة هو الأصل فهي أول بيت وضع للناس في الأرض للعبادة وخصص لها مد أمر الله إبراهيم أن يرفع قواعده وأن يخصصه للطائفين والعاكفين والركع السجود وجعله مباركاً وجعله هدى للعالمين يجدون عنده الهداية بدين الله ملة ابراهيم وفيه علامات بينة على أنه مقام إبراهيم.
- الوقفة الرابعة: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) وبلغة النظر هذا التعميم الشامل في فريضة الحج (عَلَى النَّاسِ) ففيه أولاً إيحاء بأن هذا الحج مكتوب على هؤلاء اليهود الذين يجادلون في توجه المسلمين إليه في الصلاة على حين أنهم هم أنفسهم مطالبون من الله بالحج إلى هذا البيت والتوجه إليه بوصفه بيت أبيهم إبراهيم وبوصفه أول بيت وضع للناس للعبادة وفيه ثانياً إيحاء بأن الناس جميعا مطالبون بالإقرار بهذا الدين وتأدية فرائضه وشعائره والإتجاه والحج إلى بيت الله الذي يتوجه إليه المؤمنين به.
- الوقفة الخامسة: الحج فريضة في العمر مرة عند أول ما تتوفر الإستطاعة من الصحة وامكان السفر وأمن الطريق.
الأحكام المستنبطة من آيات الدرس الثالث والعشرون سورة آل عمران
- الحكم الأول: الإيمان بأن البيت الحرام أول بيت وضعه الله للعبادة بناه إبراهيم واسماعيل عليهما السلام.
- الحكم الثاني: الإعتقاد بأن البيت الحرام رمز وحدة المسلمين بأتجاههم إليه في الصلاة وموضع أمن وسلام لمن دخله في الدنيا.
- الحكم الثالث: وجوب الحج والعمرة في العمر مرة للمستطيع وهو واجب على التراخي على أرجح الأقوال.
الدرس الرابع والعشرون من الأية (98-103) سورة آل عمران
بيّنت هذه الآيات إصرار أهل الكتاب على الكفر وتوجيه المؤمنين على الإعتصام بالقرآن
التفسير البيان
- (99) (تَبْغُونَهَا عِوَجًا) تطلبون لسبيل الله (وهي ملة الإسلام) اعوجاجا وميلاً عن القصد والإستقامة أو تطلبونها معوجة أي مائلة زائغة عن الحق والمراد طلب ذلك لأهلها وذلك بالتحريش والإغراء بينهم لتختلف كلمتهم ويختل أمر دينهم من البُغاء (بالضم) وهو الطلب يقال بغيت له كذا او بغية او أبغيه بغاء وبغى وبغية إذا طلبته والعَوَج بكسر العين وفتحها مصدر عَوِج كتعب قال ابن الأثير إن مكسور العين مختص بما ليس بمرئي كالرأي والقول، والمفتوح مختص بما هو مرئي كالأجساد وعن ابن السّكّيت أن المكسور أعم من المفتوح واختار المرزوقي أنه لا فرق بينهما.
- (100) (إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا) أي من اليهود في إثارة الأحقاد التي كانت بينكم في الجاهلية وتهيج الفتن كراهة لما أنتم عليه بعد الإسلام من التأخي والتراحم يصّيروكم بعد ايمانكم كافرين فاحذروهم أشد الحذر.
- (101) (يَعْتَصِم بِاللّهِ) يمتنع بالله ويستمسك بدينه أو كتابه من الإعتصام وهو الإستمساك بالشيء في منع النفس من الوقوع في آفة ويقال اعتصم بالله أي امتنع بلطفه من المعصية.
- (102) (اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) أي اتقاء حقاً أي ثابتاً واجبا ًمن حقّ الشيء بمعنى ثبت ووجب وذلك بأداء ما كلفتم به على قدر الطاقة كما قال تعالى بياناً لذلك (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (16) [التغابن] والتقاة اسم مصدر من اتقى كالتؤدة من التأدة
- (103) (بِحَبْلِ اللّهِ) أي بعهد الله أو بدينه أو بالقرآن لأنه سبب يوصل إليه، وأصل الحبل: السبب الذي يتوصل به إلى البقية، (وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ…) على طرف (حفرة من النار) ليس بينكم وبينها إلا أن تموتوا كفارا والشفا طرف الشيء وحرفه مثل شفا البئر، (فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا) يمحمد (ص).
الكلمات التي وردت في القرآن لأكثر من وجه
(حبل) جاءت على (3) أوجه
- الوجه الأول: وردت بمعنى القرآن قال تعالى (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا…).
- الوجه الثاني: وردت بمعنى العهد قال تعالى (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ).
- الوجه الثالث: وردت بمعنى الحبل المفتول من الليف قال تعالى (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَد).
أسباب النزول
أخرج ابن جرير الطبري عن زيد بن اسلم قال : مر شاس بن قيس اليهودي على نفر من اصحاب الرسول (ص) من الأوس والخزرج في مجلس يتحدثون فيه فغاضه ما رأى من الفتهم وصلاح ذات البين في الإسلام فأمر شاباً من اليهود كان معه أن يجلس معهم ويذكرهم بيوم بغاث (التي وقع فيها حرب بين الأوس والخزرج) فتقاتلون وتبارزون للقتال فخرج إليهم رسول الله (ص) فقال (يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين اظهركم) فأنزل الله (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ…).
وقفات مع الآيات
- الوقفة الأولى: (قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ) إن الله تعالى يأمر رسوله (ص) بأن يتجه إلى أهل الكتاب بالتنديد والتهديد على موقفهم من الحق الذي يعلمونه ثم يصدون عنه ويكفرون بآيات الله وهم شهداء على صحتها وصدقها وهم من صدقها على يقين.
- الوقفة الثانية: (لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا…) أنها لغة ذات مغزى كبير أن سبيل الله هو الطريق المستقيم وما عداه عِوج غير مستقيم وحين يصد الناس عن سبيل الله وحين يصد المؤمنون عن منهج الله فإن الأمور كلها تفقد استقامتها والموازين كلها تفقد سلامتها ولا يكون في الأرض إلا العوج الذي لا يستقيم.
- الوقفة الثالثة: لقد جاءت هذه الأمة المسلمة لتنشئ في الأرض طريقها على منهاج الله وحده متميزة متفردة ظاهرة لقد انبثق وجودها ابتداء من منهج الله لتؤدي في حياة البشر دوراً خاصاً لا ينهض به سواها ولا تستطع تؤدي ذلك إلا إذا تلقت من الله وحده وإلا إذا تولت قيادة البشرية بما تتلقاه من الله وحده لا التلقي من أحد من البشر ولا اتباع أحد من البشر ولا طاعة أحد من البشر في أصول التشريع إما هذا وإما الكفر والضلال والإنحراف.
- الوقفة الرابعة: إن طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم واقتباس مناهجهم وأوضاعهم تحمل ابتداء معنى الهزيمة الداخلية والتخلي عن دور القيادة الذي من أجله أنشئت الأمة المسلمة كما تحمل معنى الشك في كفاءة منهج الله لقيادة الحياة وتنظيمها والسير بها صعداً في طريق النماء والإرتقاء هذا بذاته دبب الكفر في النفس ولا تشعر به ولا ترى خطره القريب.
- الوقفة الخامسة: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا…) وما كان يفزع المسلم ما يفزعه أن يرى نفسه منتكساً إلى الكفر بعد الإيمان وراجعاً إلى النار بعد نجاته منها إلى الجنة مثل طاعته لفريق من أهل الكتاب الذي يدعوا إلى الكفر وهذا شأن المسلم الحق في كل زمان ومن ثم يكون هذا التحذير بهذه الصورة سوطا يلهب الضمير ويوقظه بشدة لصوت النذير.
- الوقفة السادس: (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) أجل إنها لكبيرة أن يكفر المؤمن في ظل هذه الظروف المعينة على الإيمان وإذا كان الرسول (ص) قد استوفى أجله واختاره الله إلى الرفيق الأعلى فإن آيات الله باقية وهدى رسوله (ص) باق ونحن اليوم مخاطبون بهذا القرآن كما خوطب به الأولون وطريق العظمة بين ولواء العظمة مرفوع (وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم).
- الوقفة السابعة: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ…) اتقوا الله كما يحق له أن يتقى وهي هكذا بدون تحديد ندع القلب مجتهداً في بلوغها كما يتصورها وكما يطيقها وكلما أوغل القلب في هذا الطريق تكشفت له آفاق وجّدت له أشواق وكلما اقترب بتقواه من الله تيقظ شوقه إلى مقام أرفع مما بلغ وإلى مرتبة وراء ما ارتقى وتطلع إلى المقام الذي يستيقظ فيه قلبه فلا ينام (وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون) والموت غيب لا يدري انسان متى يدركه فمن أراد الا يموت إلا مسلماً فسبيله أن يكون منذ اللحظة مسلماً.
- الوقفة الثامنة: إن ركيزتا الأمة المسلمة 1- الإعتصام بحبل الله بعد التقوى 2- والأخوة الإسلامية (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا…) فهي أخوة تنبثق من التقوى والإسلام واساسها الإعتصام بحبل الله أي عهده ونهجه ودينه وليست مجرد تجمع على أي آصرة ولا على هدف آخر.
الأحكام المستنبطة من آيات الدرس الرابع والعشرون سورة آل عمران
- الحكم الأول: وجوب المحافظة على الشخصية الإسلامية وتميزها ورفض تبعتها لغير المسلمين والتحذير من الإصغاء لمشورتهم والتفكير العميق في آرائهم كي لا تؤدي إلى الضرر والشرك والفساد او الفرقة والخلاف والانقسام.
- الحكم الثاني: وجوب تحكيم الكتاب والسنة فيما يختلف فيه المسلمون.
- الحكم الثالث: الإعتصام والتمسك بالقرآن وبدين الله وطاعته والرجوع إليه.
- الحكم الرابع: ليس الإختلاف مذموماً إذا كان في مسائل الإجتهاد.
الدرس الخامس والعشرون من الآية (104-109) سورة آل عمران
بينّت هذه الآيات أهمية الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
التفسير والبيان
- (104) (أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) الأمة الجماعة التي تُؤم وتقصد لأمر ما وتطلق في القرآن أيضاً على اتباع الأنبياء وعلى القدوة وعلى الملة وعلى الطائفة من الزمان إلى غير ذلك من معانيها والمراد بالخير: ما فيه صلاح للناس ديني او دنيوي وبالمعروف: ما عرف بالعقل والشرع حسنه أو ما وفق الكتاب والسنة وبالمنكر ضد ذلك.
- (105) (كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ…) هم اليهود والنصارى وفيه زجر للمؤمنين عن التفرق والإختلاف للهوى.
الكلمات التي وردت في القرآن لأكثر من وجه
(أمة) وردت على (9) أوجه
- الوجه الأول: وردت بمعنى جماعة قال تعالى (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ) (أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ) (وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ).
- الوجه الثاني: وردت بمعنى ملة قال تعالى (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) (وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً).
- الوجه الثالث: وردت بمعنى سنين أو زمن قال تعالى (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ) (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ).
- الوجه الرابع: وردت بمعنى قوماً قال تعالى (أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ).
- الوجه الخامس: وردت بمعنى جيلاًً قال تعالى (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ…) (وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِير).
- الوجه السادس: وردت بمعنى جمع لهم جامع من دين أو زمان أو مكان قال تعالى (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ…) (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا…).
- الوجه السابع: وردت بمعنى صنف قال تعالى (وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ…).
- الوجه الثامن: وردت بمعنى إماماً يقتدى به قال تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا).
- الوجه التاسع: وردت بمعنى خلق من غير البشر قال تعالى (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم).
وقفات مع الآيات
- الوقفة الأولى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ…) فلابد من جماعة تدعوا إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر لابد من سلطة في الأرض تدعوا إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر والذي يقرر أنه لابد من سلطة هو مدلول النص القرآني ذاته فهناك دعوة إلى الخير ولكن هناك كذلك (أمر) بالمعروف (ونهي) عن المنكر وإذا أمكن أن يقوم بالدعوة غير ذي سلطان فإن الأمر والنهي لا يقوم بهما إلا ذي سلطة.
- الوقفة الثانية: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ…) ومن ثم يعود السياق فيحذر الجماعة المسلمة من التفرق والإختلاف وينذرها عاقبة الذين حملوا المنهج الإلهي قبلها (من أهل الكتاب) ثم تفرقوا واختلفوا فنزع الله الراية منهم وسلمها للأمة المسلمة المتآخية فوق ما ينتظرهم من العذاب.
- الوقفة الثالثة: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ…) وهنا يرسم السياق مشهداً من المشاهد القرآنية الفائضة بالحركة والحيوية فنحن في مشهد هول لا يتمثل في ألفاظ ولا في أوصاف ولكن يتمثل في آدميين أحياء في وجوه وسمات هذه وجوه قد اشرقت بالنور وفاضت بالبشر، (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ…) فأبيضت من البشر والبشاشة وهذه وجوه كمدت من الحزن وأغبرت من الغم وأسودت من الكآبة وليست مع هذا متروكة إلى ما هي فيه ولكنه اللذع بالتبكيت والتأنيب (أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُون).
- الوقفة الرابعة: (تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ…) تلك الصور وتلك الحقائق وتلك البصائر تلك آيات الله وبيناته لعباده نتلوها عليك بالحق فهي حق فيما تقرره من مبادئ وقيم وهي حق فيما تعرضه من مصائر وجزاءت وهي تتنزل ممن يملك تنزيلها وممن له الحق في تقرير القيم وتقرير المصائر وتوقيع الجزاءت وما يريد بها الله أن يوقع بالعباد ظلماً فهو الحكم العدل.
الأحكام المستنبطة من آيات الدرس الخامس والعشرون سورة آل عمران
- الحكم الأول: وجوب الدعوة إلى الإسلام ونشرها بين الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويشترط في الداعي:
- العلم
- معرفة الواقع ومعرفة ثقافة العصر.
- الحكم الثاني: تحريم التفرق في الدين وفي قيادة الأمة.
- الحكم الثالث: لزوم طاعة الله ورسوله في كل خطوة من خطوات الدعوة إلى الله.
- الحكم الرابع: الإيمان بأن كل شيء يجري في هذا الكون وفق إرادة الله وقدرته.
الدرس السادس والعشرون من الآية (110-115) سورة آل عمران
في هذا الدرس وضحت الآيات سبب خيرة الأمة الإسلامية والفئة المؤمنة من أهل الكتاب
التفسير والبيان
- (110) (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) أفاد أن هذه الأمة خير الأمم وانفع الناس للناس لأتصافها بما وصفها الله به في هذه الآية.
- (111) (إِلاَّ أَذًى) أي لن يضركم اليهود إلا ضرر يسيراً لا يبالى به كالسب والطعن والتهديد ونحوه فلا تبالوا بهم، (يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ) ينهزمون وينخذلوا.
- (112) (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ…) جعلت محيطة بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه مجازاة لهم على كفرهم وجملتهم في غالب الأمر ذلة أو هم مستحقون للذلة والهوان بسبب ارتكاب المعاصي والإعتداء على حدود الله في كل شيء والإفساد في الأرض وجحود الحق عناد وقتل الأنبياء ظلماً وبما طبعوا عليه من الكفر والنفاق وأما إحاطة المسكنة بهم فلما يبدوا عليهم من الإستكانة والخضوع عند الضعف والخوف من القهر والمسكنة والخضوع مفعلة من السكون لأن صاحبها قليل الحركة والنهوض لما به من الحاجه والذلة وشدة المحنة، (ثُقِفُواْ ) أي وجدوا أو ظفر بهم، (إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ) أي لا يسلمون من الذلة في أي حال إلا في حال إعتصامهم بحبل من الله وهو دينه أو كتابه، (وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ) وهو الأمان والواو بمعنى أو، (وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ) رجعوا به مستحقين له والمسكنة فقر النفس وشحها.
- (113) (لَيْسُواْ سَوَاء) تمهيد لتعداد محاسن مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام واضرابه والنجاشي واصحابه أي ليس أهل الكتاب متساوين بالإتصاف بما ذكر من القبائح بل منهم طائفة سلمت منها واتصفت بالخير وقد وصفها الله بثمانية أوصاف، (مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ) مستقيمة ثابتة على طاعة الله من قام بمعنى استقامة تقول: أقمت العود فقام أي استقامة واعتدل، (آنَاء اللَّيْلِ) أي ساعاته جمع أنيً وأنيٍ وإنيٍ وإنوٍ فالهمزة في (آناء) متقلبة عن باء كرواء أو عن واو ككساء.
الكلمات التي وردت في القرآن لأكثر من وجه
(سواء) وردت على (5) أوجه
- الوجه الأول: وردت بمعنى التساوي والمساواة قال تعالى (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ).
- الوجه الثاني: وردت بمعنى عدل قال تعالى (قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) (سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء) (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء) (وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاط) (سَوَاء لِّلسَّائِلِين).
- الوجه الثالث: وردت بمعنى وسطاً قال تعالى (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيم).
- الوجه الرابع: وردت بمعنى أمر بينا قال تعالى (فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء) (فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء).
- الوجه الخامس: وردت بمعنى قصد السبيل قال تعالى (وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيل).
أسباب النزول
- سبب نزول الآية (110) (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ…) قال عكرمة ومقاتل نزلت في ابن مسعود وأبي ابن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة وذلك أن مالك ابن الصيف ووهب بن يهوذى اليهوديين قالا لهم: إن ديننا خير مما تدعون إلية ونحن خير وأفضل منكم فأنزل الله الآية.
- سبب نزول الآية (111) (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى…) قال مقاتل إن رؤوس اليهود وهم كعب ويحري والنعمان وأبو رافع وأبو ياسر وابن صوريا عمدوا إلى مؤمنهم: عبدالله بن سلام واصحابه فأذوهم لإسلامهم فأنزل الله الآية.
- سبب نزول الآية (113) (لَيْسُواْ سَوَاء…) أخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس قال لما اسلم عبدالله بن سلام وثعلبة ابن سعنه أو (سعية) واسيد بن سعنه أو (سعية) واسد بن عبيد ومن اسلم من يهود معهم فأمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام قالت الأحبار اليهود وأهل الكفر منهم ما آمن بمحمد واتباعه إلا شرارنا ولو كانوا خيرانا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره فأنزل الله الآية وفي رواية أخرى.
وقفات مع الآيات
- الوقفة الأولى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ…) إن التعبير بكلمة (أخرجت) المبني لغير الفاعل تعبير يلفت النظر وهو يكاد يشئ باليد المدبرة اللطيفة تخرج هذه الأمة إخراجاً وتدفعها إلى الظهور دفعاً من ظلمات الغيب ومن وراء الستار السرمدي الذي لا يعلم ما وراءه إلا الله إنها كلمة تصور حركة خفية المسرى لطيفة الدبيب حركة تخرج على مسرح الوجود أمة ذات دور خاص لها مقام خاص ولها حساب خاص.
- الوقفة الثانية: (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى…) فلن يكون ضرراً عميقا ولا أصيلاً يتناول أصل الدعوة ولن يؤثر في كينونة الأمة المسلمة ولن يجليها من الأرض وإنما هو الأذى العارض في الصدام والألم الذاهب مع الأيام فأما حين يشتبكون مع المسلمين في القتال فالهزيمة مكتوبة عليهم في النهاية والنصر ليس لهم على المسلمين ولا ناصر لهم كذلك ولا عاصم من المؤمنين.
- الوقفة الثالثة: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ…) فقد ضربت عليهم الذلة وكتب لهم مصير سيئ فهم في كل أرض يذلون لا تعصمهم إلا ذمة الله وذمة المسلمين حين يدخلون في ذمتهم فتعصم دمائهم وأموالهم إلا بحقها وينالهم الأمن والطمأنينة، (وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ) كأنما رجعوا من رحلتهم يحملون هذا الغضب، (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) تعيش في ضمائرهم وتكمن في مشاعرهم ويكشف القرآن عن سبب هذا القّدر المكتوب على اليهود، (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ…) فالكفر بآيات الله وقتل الأنبياء بغير حق والعصيان والإعتداء هذه هي المؤهلات لغضب الله.
- الوقفة الرابعة: (لَيْسُواْ سَوَاء…) هي صورة وضيئة للمؤمنين من أهل الكتاب: 1- فقد آمنوا إيماناً صادقاً عميقاً وكاملاً وشاملاً 2- وانضموا للصف المسلم 3- وقاموا على حراسة هذا الدين 4- وآمنوا باليوم الآخر 5- وقد نهضوا بتكاليف الإيمان 6- وحققوا سمة الأمة المسلمة التي انضموا إليها (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ…) 7- ورغبت نفوسهم في الخير جملة فسارعوا في الخيرات 8- ومن ثم هذه الشهادة العلوية لهم أنهم من الصالحين.
الأحكام المستنبطة من الآيات
- الحكم الأول: الإعتقاد بخيرية هذه الأمة وأن أول هذه الأمة أفضل ممن بعدهم قال الرسول (ص) (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) أخرجه أحمد والشيخان والترمذي، وهذا مذهب معظم العلماء وأما أواخر هذه الأمة فلهم فضيلة أخرى قال الرسول (ص) (أن أمامكم أياما: الصابر فيها على دينه كالقابض على الجمر للعامل فيها أجر خمسين رجلا يعمل مثل عمله قيل يا رسول الله منهم؟ قال بل منكم) أخرجه الترمذي والحاكم وابن ماجه (ض).
- الحكم الثاني: فمن واجب المسلم ألا ينظر لأهل الكتاب نظرة واحدة بكفرهم وانحرافهم بل لابد أن يعتقد بأن منهم من يؤمن بالله ورسوله (لَيْسُواْ سَوَاء…).
دروس من سورة آل عمران ( من الدرس التاسع عشر إلى الدرس الثاني والعشرين)