الهجرة النبوية.. صراع بين الحق والباطل وسنة المكر والأخذ بالأسباب
الهجرة النبوية تروي قصة الصراع بين الحق والباطل وهو صراع قديم وممتد وسنة إلهية نافذة، قال عز وجل:﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج، آية : 40)، ولكن هذا الصراع معلوم العاقبة قال تعالى ﴿كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾
مكر الأعداء بالمصلحين مستمر متكرر
سواء عن طريق الحبس أو القتل أو النفي والإخراج من الأرض، وعلى المصلح أن يلجأ إلى ربه، وأن يثق به ويتوكل عليه، ويعلم: أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، قال عز وجل: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال، آية : 30).
دروس في دقة التخطيط والأخذ بالأسباب
إن من تأمل حادثة الهجرة ورأى التخطيط فيها، ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، ومن مقدماتها إلى ما جرى بعدها، يدرك أن التخطيط المسدد بالوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائماً، وأن التخطيط جزء من السنة النبوية، وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم، وأن الذين يميلون إلى العفوية، بحجة أن التخطيط وإحكام الأمور ليسا من السنة، أمثال هؤلاء مخطئون، ويجنون على أنفسهم، وعلى المسلمين.(1)
وجود التنظيم الدقيق للهجرة
وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت، برغم ما كان يكتنفها من صعاب وعقبات وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة، كان مدروساً دراسة وافية، فمثلاً:
- جاء صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر، في وقت شدة الحر ـ الوقت الذي لا يخرج فيه أحد ـ بل من عادته لم يكن يأتي له في ذلك الوقت لماذا؟ حتى لا يراه أحد.
- إخفاء شخصيته صلى الله عليه وسلم في أثناء مجيئه للصديق، وجاء إلى بيت الصديق متلثماً، لأن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم(2).
- أمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يخرج من عنده، ولما تكلم لم يبين إلا الأمر بالهجرة، دون تحديد الاتجاه.
- كان الخروج ليلاً، ومن باب خلفي في بيت أبي بكر.
- بلغ الاحتياط مداه، باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم، والاستعانة في ذلك بخبير يعرف مسالك البادية، ومسارب الصحراء، ولو كان الخبير مشركاً، مادام على خلق ورزانة وفيه دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يحجم عن الاستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها.
انتقاء شخصيات عاقلة للمشاركة في الهجرة
انتقاء شخصيات عاقلة لتقوم بالمعاونة في شؤون الهجرة، ويلاحظ أن هذه الشخصيات كلها تترابط برباط القرابة، أو برباط العمل الواحد، مما يجعل من هؤلاء الأفراد، وحدة متعاونة على تحقيق الهدف الكبير.
- وضع كل فرد من أفراد هذه الأسرة في عمله المناسب، الذي يجيد القيام به، على أحسن وجه، ليكون أقدر على أدائه والنهوض بتبعاته.
- فكرة نوم علي بن أبي طالب مكان الرسول صلى الله عليه وسلم فكرة ناجحة، قد ضللت القوم وخدعتهم وصرفتهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى خرج في جنح الليل، تحرسه عناية الله وهم نائمون، وقد ظلت أبصارهم معلقة بعد اليقظة، بمضجع الرسول صلى الله عليه وسلم، في حين أن النائم هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
لقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسباب المعقولة أخذاً قوياً حسب استطاعته وقدرته، ومن ثم باتت عناية الله متوقعة.
الأخذ بالأسباب وأهمية التوكل
إن اتخاذ الأسباب أمر ضروري وواجب، ولكن لا يعني ذلك دائماً حصول النتيجة ذلك لأن هذا أمر يتعلق بأمر الله ومشيئته، ومن هنا كان التوكل أمراً ضرورياً وهو من باب استكمال اتخاذ الأسباب.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعدّ كل الأسباب، واتخذ كل الوسائل، ولكنه في الوقت نفسه مع الله يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح وهنا يستجاب الدعاء، وينصرف القوم بعد أن وقفوا على باب الغار، وتنخرس فرس سراقة في الأرض، ويكلل العمل بالنجاح.