الشيخ سعيد بن سعيد.. تواضع الأتقياء، وهمة العظماء

في زمنٍ يبحث فيه الكسالى ودنيئو الهمم عن أدنى المعاذير ليقعدوا متخلفين عن العلم والسعي له والتنقل والترحال وخوض غمار الرمال وعباب البحار ومواجهة الصعاب تجد الشيخ سعيد بن سعيد قد حزم أمره وشد مئزره مستقبلا حياة المجد بدأب الجد وعنفوان الانطلاق بمكابدة المشاق ليتبوأ بعد جهد جهيد وضرب في الأرض بعيد عرش المعرفة وكرسي الفتيا ومنصة التعليم ومرتبة عالية ومركز رفيع ومكانة سامية في قلوب عباد الله الصالحين.
نبذة عن الشيخ سعيد بن سعيد
تكاد من فرط تواضعه وحرصه الشديد على عدم الظهور والبروز أن لا تجد له ذكرا في الصفحات الأولى ومقدمات نشرات الأخبار ولا صورا له تعلق ولا صوتا له ينشر إلا ما كان بغير علمه وعلى غرة منه..
ما هذا التواضع الذي يصل لحد نكران الذات إلا نتيجة معرفة الرجل بربه وتعلقه بما عنده ورضاه بسعادته الداخلية الجمة والتي ألجمت كل نزوة في نفسه للتطلع وقطعت على تفكيره أية خاطر للصدارة إلا في رحاب العلم ورياض المساجد وحلق الذكر.
حين تلقى فرصة سانحة لمقابلة الشيخ سعيد بن سعيد حزام، الزاهد العابد والمخبت الأواه؛ فأنت ذو حظ عظيم، ففي وجهه تتداخل ظلال الروح وتمتزج أشرعة النور فيتخلل الوقار المبارك حوله فترى الوجنات مدهامتان من أثر المدامع التالية والمناجاة الهامسة آناء الليل وأطراف النهار وسوانح الفكر إذ يتبتل القلب بالأسحار.
قصة عظيمة كهذه تحتاج ليافطاتٍ شعورية توقظ الهمة في الأمة وتستدعي إيجاد صيحات لتعزيز قيم حب التعلم على مسارح الزمن ومشارف القرون.
أي رجلٍ فذ كنت أيها المعلم ومن أي معدنٍ أنبتتك النسمات السماوية يا شيخ، وهل وجد الحزن إليك سبيلا وقد كنت سعيدا مرتين اسما وطبعا، وثالثة مباهج السعد حين تُتوج بإذن الله بجلالٍ تحت ظل عرش ربك الكريم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
معلومات عن الشيخ سعيد بن سعيد حزام
أحد أبرز شيوخ العلم في محافظة تعز، وعضو جمعية العلماء فيها، ومن كبار علماء الفقه والحديث في اليمن.
نسبه ومولده: الشيخ: سعيد بن سعيد بن حزام بن محمد بن عبد الله بن طالب بن أحمد، ولد في العام 1356هـ / 1935م، في قرية البير، عزلة بني عيسى، مديرية جبل حبشي.
رحلته في طلب العلم
يقول الشيخ سعيد بن سعيد عن مسيرة تعلمه: درستُ وأنا صغير عند خالي (سيف بن حيدر)، ثم انتقلت إلى مدينة عدن ودرست فيها على يد العلامة (أحمد بن محمد العبادي)، والفقيه (محمد بن سالم البيحاني)، ثم سافرت من عدن إلى مدينة جبلة بلواء إب بعد أن سمعت من طلاب علمٍ درسوا هناك أن في جبلة علماء يُدرِّسون طوال اليوم فسافرت إليها دون أن أمر حتى إلى تعز خوفا من أن يقوم أهلي وأسرتي بمنعي من الخروج لطلب العلم..
ويضيف: “في جبلة درست مدة أربع سنوات على يد مشايخ أجلاء أمثال الشيخ أحمد حسن الشافعي والشيخ محمد بن يحيى مرشد والشيخ عبد الرحمن العنسيين والشيخ عبد المجيد المصنف والشيخ محمد علي..
ويقول ايضا : ” قررت وأنا في العمر 22 من العام 1381ه- أن أشد الرحال للدراسة في المدينة المنورة فتقدمت لقطع جواز سفر باسم طالب علم وكان ذلك أيام حكم الإمام الذي لا يسمح بالسفر لطلب العلم فقال لي عامل في الجوازات حينها بأنني لن أستطيع السفر بهذه الصفة لكنني أصريت على إضافتها، فسافرت عبر البحر حتى وصلت إلى مدينة جدة ثم ذهبت لأداء فريضة الحج وفي مكة درست الحديث على يد مشائخ فضلاء منهم الشيخ العلامة/ يحيى بن عثمان المدرس عظيم أبادي، الشيخ العلامة/ محمد عبد الله الصومالي ، وفي العام 1383هـ انتقلت إلى المدينة المنورة، وفيها درست الثانوية، ثم التحقت بالجامعة الإسلامية، ومن مشائخي فيها: الشيخ العلامة/ محمد الأمين محمد الشنقيطي والشيخ العلامة/ مختار الشنقيطي والشيخ العلامة/ أبو بكر جابر الجزائري والشيخ العلامة/ حماد بن حماد الأنصاري والشيخ العلامة/ شيبة الحمد والشيخ العلامة/ عبد اللطيف النجدي والشيخ العلامة/ عطية محمد سالم المصري، وحصلت على الإجازة العالية من الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.
عودة الشيخ سعيد بن سعيد إلى تعز، وعزمه الذي لا يلين
بعد ثمانية أعوام من طلب العلم في المدينة المنورة عاد الشيخ سعيد بن سعيد إلى اليمن رفقة الشيخ/ أحمد مقبل بن نصر والشيخ/ هلال عباس الكبودي واللذَين عادا إلى محافظة الحديدة بينما عاد شيخنا إلى محافظة تعز بعد غربة تعليمية استمرت لمدة عقد من السنوات إلا نيفا خارج الوطن.
- عمل في سلك التعليم مدرسًا في مدرسة (الثورة) في مدينة تعز، من عام 1390هـ/1970م، ولمدة أربع سنوات، ثم مدرسًا في معهد تعز العلمي.
- سافر إلى الرياض مواصلا دراسته في جامعة الإمام (محمد بن سعود)، وحصل على شهادة (دبلوم عالي) في القرآن وعلومه، وعلم الأصول، ثم عاد إلى مدينة تعز، موجها لمادة التربية الإسلامية في عدد من المدارس، ومُدَرِّسًا بنفس الوقت في عدد من حلقات العلم.
- كان الشيخ عضواً في عدد من الجمعيات العلميّة والخيرية، وعضواً في هيئة عُلَماء اليمن.
- يعد الشيخ من مؤسسي هيئة دار القرآن الكريم، وجمعية معاذ العلمية لخدمة القرآن الكريم والسنة النبوية في مدينة تعز.
صراعه مع البدع والأفكار المنحرفة
يحكي الشيخ سعيد بن سعيد رحمه الله عن قصته وزملاء له –بعد عودته من المدينة المنورة- في هدم عدد من الأضرحة والقبور ذات القِباب والأبنية المزخرفة بمديرية جبل حبشي فيقول: “ذهبت مع زملاء لي لهدم قباب في جبل حبشي فتجمع علينا الناس وتخاصمنا معهم وتقدموا بتكليف شيخ من المنطقة بإيصال شكوى بنا إلى وكيل محافظة تعز حينها أ/ عبد السلام الحداد والذي باشر بطلبنا عبر أحد العساكر، وحينما وصلنا إليه سألنا الوكيل عن صحة الدعوى وأراد أن يسمع منا، فحدثناه بما حصل وأن هذه شركيات وبدع لا تجوز فوافقَنا وقال: هذا هو الصحيح. وأرغم الشيخ الذي بلغ بنا على دفع أجرة العسكري وقال له: لو تقدمت بالشكوى مرة أخرى بهم فسوف أسجنك أنت..
تفانيه في التعليم والتربية
ضرب الشيخ سعيد بن سعيد مثلا رائدا وأنموذجا حيا في التفاني والتفرغ للتعليم والتربية حيث كان جدول يومه اليومي لا يخلو من ساعة تعليم أو توجيه أو تربية فهو في الصباح يلقي دروسه وفي وسط النهار يعقد حلقات قرانية وفي المساء يقيم دروسا في مختلف العلوم ولا يعود إلى بيته إلا بعد صلاة العشاء.
ورغم تقاعد الشيخ سعيد بن سعيد وكبر سنه إلا أنه عمل مدرسا في فرع جامعة الايمان بمحافظة تعز وفي مركز المنار العلمي وله دروس عديدة ومحاضرات في مساجد مدينة تعز وغيرها من المساجد والملتقيات.
وقد شاع في محافظة تعز غزارة علمه وسعة معارفه فأقبل عليه الناس وطلبة العلم من كل حدب وصوب، وتخرج على يديه كثير من الطلبة الذين نهلوا من علمه وقد كان آية من آيات الله في الفقه والعقيدة والمواريث والحديث والسيرة والنحو.
يقول أحد طلبته: “الشيخ سعيد بن سعيد، كان محبوبا لدى طلابه فهو الشيخ الذي يتفانى في تعليمهم ولا يضع حاجزا بينه وبينهم، وكان شديد الحرص على تعليمهم كل ما لديه من العلوم والمعارف، وكان صاحب نفَس طويل وحِلم، يألف ويؤلف فكان الاب الحنون والمعلم العطوف”.
ويقول آخر: “رغم أن الشيخ قد لا يكون مشهورا بالخطابة إلا أن للشيخ باع طويل في التعليم والتدريس كتعليم العقيدة وكثير من العلوم وكنتُ إذا أصابني نوع من الفتور أو التقصير في طلب العلم أشاهد شيخنا رغم كبر سنه وهو يحمل كتابه الذي لا يفارقه فأندفع بقوة لمواصلة طلب العلم اقتداء بالشيخ سعيد بن سعيد الذي يعد مثالا حيا للهمة والعزيمة في تعلم العلم وتعليمه”.
وفاة الشيخ سعيد بن سعيد
ظل الشيخ الكبير والعلامة القدير سعيد بن سعيد حزام وفيا للعلم باذلا له كل جهده ووقته وعمره متفانيا في العطاء والتعليم وكما يقال من المهد إلى اللحد، حتى إذا استوَت شجرة علمه وأينعت وآتت أكلها.. نظر فإذا ابتسامة الرضا-رغم طموحه وتطلعه للأفضل- ترتسم بوجهه وأشرق لها وبها محياه قائلا في نفسه وقد جاوز بعمره الثمانين اللهم رضاك والجنة.
وقد توفي شيخنا الحبيب سعيد بن سعيد رحمه الله يوم السبت14 ذو القعدة 1444هـ الموافق: 3 يونيو 2023م عن عمر ناهز الـ88 عامًا.
وقد أقيمت له جنازة مهيبة بعد الصلاة عليه بمسجد السعيد وقد شيعه المئات من تلاميذه ورواد مسجده ودروسه وجمع غفير من أهله وزملائه ومحبيه وعدد من القيادات السياسية والعسكرية والتربوية لمقبرة الشهداء وهناك واروه الثرى وهم يكادون لا يوارون مدامعهم فقد خلف في أنفسهم الحزن على رحيل عظيم مثله، ومرت أمامهم سيرة رجل وهب نفسه للعلم فصار العَلَم الذي شمخ بقصة همته حتى بلغ الذرا وجاوز الثريا.
اقرأ أيضاً الشيخ عبد الرحمن بن قحطان.. سيرة، وضاءة، وعلم فريد