مقدمة تفسير آيات الأحكام في القرآن

تمهيد.. نظراً لأهمية التمسك بـ(آيات الأحكام) علماً وعملاً، والعلم بأحكامه نصاً واستدلالاً، فقد كان الأستاذ محمد علي إسماعيل – رحمه الله – يحرص على تتبع أحكام القرآن وتناولها في دروسه المسجدية ومحاضراته المختلفة، وفي آخر حياته قام بتدوينها بالطريقة التعليمية الدرسية بأسلوب سهل، ومبسط ينجذب له القارئ، ومن خلالها يستسيغ العبارة، ويفهم المعاني، فتترسخ الفكرة، وتتضح الرؤية، ويدرك مغزاه، ويعمل بمقتضاه، ويظهر الأثر.
مقدمة آيات الأحكام في القرآن
علم التفسير -كما لا يخفى- ملجأ لكل طالب معرفة في تبيان أحكام الشريعة. وقد تبلورت كتب التفسير تحت عناوين عديدة؛ فمنها ما هو متصف بالمأثور، ومنها متصف بالرأي، ومنها متصف باللغة، ومنها متصف بالبلاغة، ومنها متصف بالأحكام، ومنها ما هو متصف بغير ذلك. ولا نكاد نجد تفسيراً يجمع جميع الجوانب المتعلقة بالتفسير، ومن ثم كانت كُتب التفسير يكمل بعضها بعضاً، ويأخذ بعضها برقاب بعض.
ومن أنواع كتب التفسير، كتب أفردت لبيان آيات الأحكام على وجه الخصوص، ولا شأن لها في الآيات غير المتضمنة لحكم شرعي. نخصص هذه المقدمة للحديث عنها، فنقول:
الغرض من معرفة آيات الأحكام
قال الشافعي رحمه الله: “إن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصاً واستدلالاً، ووفقه الله للقول والعمل لما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الرِّيَب، ونورت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة”. وقد رُوي عن الربيع تلميذ الشافعي، قوله: “قلما كنت أدخل على الشافعي رحمه الله إلا والمصحف بين يديه، يتتبع أحكام القرآن”. وآيات الأحكام عموماً فيها صلاح الناس في أنفسهم، وصلاحهم في مجتمعهم.
المراد بآيات الأحكام
يقصد بآيات الأحكام: ما ورد في القرآن الكريم من الآيات القرآنية التي تتضمن الأوامر والنواهي والمسائل الفقهية، كآية حل البيع وحرمة الربا، وآية المداينة، وآية الرهن، وآيات تحريم شرب الخمر، والزنى، والقذف، والآية التي تبين فرائض الوضوء، وجواز التيمم عند وجد شرطه، وغير ذلك من الآيات التي تتضمن حكماً شرعيًّا بنصها، أو بدلالتها، أو بسياقها.
منهج استنباط آيات الأحكام
يستدل على الأحكام الشرعية من الآيات القرآنية تارة بالصيغة نفسها، وتارة بالأخبار، مثل قوله سبحانه: {أحل لكم صيد البحر وطعامه} (المائدة:96)، وقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (المائدة:3)، وقوله عز وجل: {كتب عليكم الصيام} (البقرة:183)، وتارة بما رتب عليها في العاجل، أو الآجل من خير، أو شر، أو نفع، أو ضر. وقد نوع الشارع في ذلك أنواعاً كثيرة؛ ترغيباً، وترهيباً، وتقريباً إلى أفهامهم، فكل فعل عظمه الشرع، أو مدح فاعله لأجله، أو أحبه، أو أحب فاعله، أو رضي به، أو رضي عن فاعله، أو وصفه بالاستقامة، أو البركة، أو الطيب، أو أقسم به، أو بفاعله…فهو دليل على مشروعيته المشتركة بين الوجوب والندب. وكل فعل طلب الشارع تركه، أو ذمه، أو ذم فاعله، أو عتب عليه، أو مقت فاعله، أو لعنه، أو نفى محبته، أو محبة فاعله، أو الرضى به، أو عن فاعله، أو شبه فاعله بالبهائم، أو بالشياطين…فهو دليل على المنع من الفعل، ودلالته على التحريم أظهر من دلالته على مجرد الكراهة.
وقد ذكر العلماء أن قوله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (الأعراف:31)، جمع أصول أحكام الشريعة كلها، فجمع الأمر، والنهي، والإباحة، والتخيير.
والمعهود من القرآن الكريم ختم آيات الأحكام بالمواعظ والعبر والتوحيد، قال الشيخ رشيد رضا: “مضت سنة القرآن في مزج آيات الأحكام العملية بما يرغب في الأعمال الصالحة، وينشط عليها، ويحفز الهمم إليها، وينفر من القعود عنها، والتكاسل والتواكل فيها”. ونقل عن الشيخ محمد عبده في هذا الصدد قوله: “إن من سنة القرآن الحكيم مزج آيات الأحكام بآيات المواعظ والعبر والتوحيد; ليقرر أمر الحكم، وينصر النفوس على القيام به”. والمثال على ذلك قوله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله} (البقرة:275).
ولا بد لمن يتصدى لاستنباط الأحكام من الآيات من أن يكون على دراية ومعرفة بقواعد أصول الفقه، فإنه من أعظم الطرق في استثمار الأحكام من الآيات؛ فيستفاد عموم النكرة في سياق النفي، من قوله تعالى: {ولا يظلم ربك أحدا} (الكهف:49). وفي الاستفهام من قوله سبحانه: {هل تعلم له سميا} (مريم:65). وفي الشرط من قوله عز وجل: {فإما ترين من البشر أحدا فقولي} (مريم:26). وفي النهي من قوله تعالى: {ولا يلتفت منكم أحد} (هود:81). وغير ذلك من القواعد الأصولية التي لا غنى من معرفتها لكل من يتصدى لاستنباط الأحكام من الآيات القرآنية.
وبعد، فإن الأمر الذي نحب أن نلفت النظر إليه، أن آيات القرآن الكريم كلٌّ متكامل، يكمل بعضها بعضاً، ويأخذ بعضها برقاب بعض، فآيات الأحكام ليست بمعزل عن آيات العقيدة، وليست أيضاً بمعزل عن آيات الأخلاق، وغير ذلك من الموضوعات التي تناولها القرآن الكريم، والحديث عن آيات الأحكام تحت عنوان مستقل لا يعدو أن يكون أمراً إجرائياً، الغرض منه تيسير إيصال المعلومة المتعلقة بجانب الأحكام، وعلى الله قصد السبيل.