2025-09-29 1:02 ص
إدارة الموقع
2025-09-29 1:02 ص
للعالمين رحمة

الصدق منجى: سنة نبوية منسية في زمن التلاعب بالكلمات

بسم الله الرحمن الرحيم

في عالم تطغى فيه المصلحة الآنية، وتتفنن فيه الألسن في صياغة الأقوال الملتبسة، والمناورات الكلامية، يطل علينا حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم عن الصدق، كنور يقطع ظلام الزيف؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، ومَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ ويَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وإِيَّاكُمْ والْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، ومَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ ويَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

إنه الحديث الذي يضع الأسس الحقيقية لبناء الشخصية الفردية والمجتمعية على ثابت لا يتزعزع: الصدق. فهذه السنة النبوية العظيمة، التي قد يغفل عنها الكثيرون في خضم الحياة، ليست مجرد فضيلة أخلاقية، بل هي سنة كونية وسلم ترقى به النفس والمجتمع إلى أعلى المراتب.

 

 من الصدق إلى الجنة.. سلم تصاعدي

يبدأ الحديث ببيان حقيقة كبرى: “إن الصدق يهدي إلى البر”. فالصدق هنا ليس مقصوراً على صدق اللسان في الأخبار فحسب، بل هو صدق في النية مع الله، وصدق في العزم مع النفس، وصدق في العمل مع الآخرين. عندما يلتزم الإنسان بالصدق كمنهج حياة، فإنه يضع قدميه على الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه. هذا الطريق يقوده حتماً إلى “البر”، وهو كلمة جامعة لكل خير، تشمل الطاعة والإحسان والصلاح في الاعتقاد والقول والعمل.

البر هو ثمرة الصدق الطبيعية، فالنفس الصادقة تستقيم على الخير، وتأنف من الدنس والرياء.

ثم يأتي الوعد الأعظم، وهو الغاية التي يسعى إليها كل مؤمن: “وإن البر يهدي إلى الجنة”. فالجنة هي دار الأبرار، ولا يمكن أن يدخلها إلا من كان من أهل البر الحقيقي. وهكذا يرسم الحديث خارطة طريق واضحة: الصدق → البر → الجنة. إنها معادلة إلهية بسيطة في مفهومها، عظيمة في نتائجها، تضمن للسالك سعادة الدارين.

من الكذب إلى الفجور.. منحدر خطير

وفي المقابل، يحذر النبي صلى الله عليه وسلم تحذيراً شديداً من النقيض، فيقول: “وإياكم والكذب”. صيغة “إياكم” تحمل معنى التحذير والتحريم والتهديد. ثم يبين السننية الكونية ذاتها ولكن في الاتجاه المعاكس: “فإن الكذب يهدي إلى الفجور”.

الكذب هو أول حلقة في سلسلة الشر، فهو باب مفتوح على مصراعيه يؤدي إلى “الفجور”، وهو الخروج عن حدود الله وترك طاعته، والوقوع في المعاصي والمنكرات. الكذاب يضطر لتغطية كذبة بأخرى، ويقسو قلبه، ويستسهل الوقوع في الحرام لتبرير أكاذيبه أو لتحقيق مكاسب سريعة.

الكذب يهدم الثقة، ويشيع الفوضى الأخلاقية، ويُفقد الإنسان رصيده عند الله وعند الناس، والفجور بدوره، إن استمرأه الإنسان ولم يتب، فإن عاقبته وخيمة، كما أكمل الحديث: “وإن الفجور يهدي إلى النار”.

 الصدق “سنة منسية”

على الرغم من وضوح هذه المعادلة، إلا أننا نلاحظ إهمالاً لها في الممارسة العملية، مما يجعل وصفها بـ “السنة المنسية” مناسباً، وذلك لأسباب عدة:

  1. طغيان النفعية المادية: في زمن أصبحت فيه الغاية تبرر الوسيلة، يرى الكثيرون في الكذب وسيلة سريعة للربح أو للتفوق أو لتجنب المسؤولية.
  2. التربية الضعيفة: تراجعت التربية على القيم الجوهرية، مثل الصدق، لصالح التربية على التحصيل الدراسي والمهارات فقط، دون بناء الشخصية الأخلاقية.
  3. تشويش المفاهيم: ظهور مفاهيم مثل “الكذبة البيضاء” أو “الكذب لدعم السلامة” يجعل الحدود بين الصدق والكذب ضبابية، في حين أن الحديث عام وشامل.
  4.  ضعف الإيمان بالغيب: عندما يضعف إيمان الإنسان بالله واليوم الآخر، فإن الرقابة الذاتية تختفي، ويصبح المقياس هو المنفعة الدنيوية الفورية فقط.

تجليات الصدق في حياة المسلم:

ليست القضية مجرد عدم الكذب في الحديث، بل هي أوسع من ذلك بكثير. فالصدق يشمل:

  1. صدق العبد مع ربه: بأن يكون صادقاً في إيمانه، لا يشرك به شيئاً، صادقاً في نيته، يخلص العمل لله وحده.
  2. صدق الحديث: في الأخبار والوعود والمعاملات. قال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين”.
  3. صدق الأعمال: بأن يوافق العمل النية والقول، فلا يكون هناك نفاق أو رياء.
  4. صدق الوعد: فالوفاء بالعهد من علامات المؤمن الصادق.
  5. صدق الشجاعة: كالصدق في القتال وعدم الفرار، والصدق في قول كلمة الحق عند السلطان الجائر.

دعوة إلى إحياء السنة

إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن الصدق والكذب ليس مجرد كلمات تقال، بل هو قانون إلهي يحكم مصير الأفراد والأمم. إحياء هذه السنة المنسية هو بمثابة عملية إنقاذ للفرد من النفاق والضلال، وللمجتمع من التفكك والفساد. إنه يستدعي منا:

  • تربية النفس على الصدق في صغائر الأمور قبل الكبار.
  • تغذية الإيمان بتذكر أن الله مع الصادقين، وأن الجزاء في الجنة.
  • توعية الأبناء وتربيتهم على أن الصدق منجى، وأن الكذب مهلكة، ولو بدا عكس ذلك في اللحظة الأولى.

فلنعمل بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولنجعل الصدق شعاراً لنا، فبه ننال بر الدنيا وجنة الآخرة، ونكون كما وصف الله تعالى: “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه”.

Author

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى