
لم يكن المفكر الداعية، والقائد المؤسس، الأستاذ عبد الملك الشيباني مؤرخاً فحسب؛ بل كان بارعاً في كل ميادين المواجهة مع أعداء الحقيقة، حتى نفسه وقف ضِدها ذاتَ جلاء، وعَدَّلَ من مسارها، وضبط منوالها.
لم يكن يكتب التاريخ لأجل التاريخ، -أي لم تكن دوافعه اختزال اللحظة، وأرشفتها، وتوثيقها-، بل كان يَصوغ فكرته، ويحصن عقيدته، لينفخ عبر تأريخه روح الدعوة، ويُلقي على الصدور- قبل السطور- وحي منهاجه، وشريعته.
من يقترب من الأستاذ/ الشيباني، ومن حظي بالقرب منه عن كثب؛ وجد، ويجد عالَما متنوعا من سِحر الشخصية الآسرة، والتي وهبت نفسها، وأوقفت نشاطها لأجل القضية، والمعتقد.
ألَّفَ الكتب، والقلوب، وأرَّخَ للأزمنة، والأمكنة بأسلوب ثلاثي الأبعاد، بل أعمق، وأبعد..
لعله ضربٌ من خيال، ومحاولة في المستحيل أن يُؤرَّخَ للتاريخ، والأبعد من ذلك حين يكون التاريخ متمثلا في شخص، ومتجسدا بفكرة، ومرتبطا بدعوة، وغاية.
كثيراً ما كنا نقف مشدوهين أمام قلاع كتاباته الشامخة بعينِ الذهول، وفكر الإعجاب، وجلال الأسطر..
كُتُبُهُ التي حرِص كثيرا على إضفاء الحركة فيها، قلَّما تكتفي بمطالعةٍ واحدةٍ لها؛ فهي كالرِواء تبعث فيك الحياة كلما ورَدَت روحك مِنه.
صرامتُه في طريقة اغتنامه للوقت، وإدارته لجدول حياته؛ نَصَّبته أستاذا للأجيال بحق، ومنحته وسام الإرادة بجد.
كان الواسطة – بخبرته، وتجدده- بين العمق، والسطح، بين التنظيم، والجمهور، بين الجيل المؤسس، والجيل اللاحق، بين دهاليز التخطيط، وميادين التنفيذ، بين الأصالة، والمعاصرة، بين القدوة، والقيادة، بين العطاء المقنن، والعطاء المنفتح، بين الخَضِرِ، وموسى، بين التحديات، والأمل المنشود.
تنقَّل، وارتحل، وأسسن وشارك، وحاضرن وخطب، وكتب، وخطط، ونفذ؛ ودرَّب، وأدار؛ ورأس، وأشرف؛ وقد خَرَج من كل ما يُتوَهَمُ عنه كمنصبٍ بتواضع الكبار، ونزَل من كل ما يُظنُّ تعاليا بذكاء الأخيار؛ فتجده ملتحما مع طلابه كأنه أحدهم؛ متحدا مع مُريديه، منسجما بين رفقته، ولولا وهَج الشعلة التي كانت تتقِد في مدار إلهامه السابق، وومضِ حِنكَتهِ المشرق؛ لما تربَّع كرسي الإلقاء، أو جلس بمكتب شؤون تسييرِ الأعمال على جدول مَهام الأداء.
كان رحمه الله موسوعة شاملة، ومشروع نهضةٍ اكتمَلت، وما يزال نبراسُ فِكرِهِ الوثاب يُمعن فينا هُدَى فِراسَةٍ، وسبيل وِئام، لإرساء مداميك عمل جماعي مُشترَك، عنوانه النهضة، والازدهار .
بطاقة تعريفية
- الاسم : عبد الملك محمد مرشد أحمد الشيباني
- محل الميلاد : ولد في قرية (الأثلاء) عزلة ( بني شيبة الغرب) مديرية (الشماتين) الحجرية محافظة ( تعــــــــــــــــــــــز ) .
- تاريخ الميلاد : ١٩٥٢م .
- الحالة الاجتماعية : متزوج، وله من الأبناء ( ٧ ذكور، وابنتان )
- تاريخ الوفاة : فجر يوم الأربعاء بتاريخ ۱۸ ديسمبر ۲۰۱۳م .
- العمر عند الوفاة : ٦١ عاما
حياته العلمية:
- درس في القرية على يد الفقيه / محمد عبد الله طاهر، وعبد الرحيم القاضي.
- درس المرحلة الابتدائية بالمعهد العلمي، وفي كلية بلقيس بعدن.
- درس المرحلة الاعدادية، والثانوية بمدرستي الثورة ،والشعب، بمدينة تعز
- تخرج عام ٧٣م من الثانوية العامة، ثم انتقل إلى مدينة صنعاء للدراسة الجامعية بجامعة صنعاء وفي ۱۹۷۷م، تخرج بشهادة البكالوريوس من كلية التربية – قسم التاريخ.
- تلقى العلم الشرعي على يد بعض العلماء منهم ( الشيخ /عبد الرحمن قحطان
- الشيخ /نصر أحمد ناصر الشميري – الشيخ/ علي سعيد الغيلي- الشيخ/ محمد عبد الرب جابر -. الشيخ/ محمد سالم البيحاني .- الشيخ / أحمد السروري . – الأستاذ/ عمر طرموم، وغيرهم من مشايخ اليمن.(
المناصب التي تولاها : منذ ١٩٦٨م إلى ٢٠١٣م سنة وفاته:
شغل خلال هذه الفترة مناصب إدارية -حكومية وحزبية، وطوعية- منها :
- مدرساً في مدرسة ناصر، والنجاح، والثلايا، ومعهد تعز العلمي.
- وكيلاً لمدرسة الثلايا، ثم مديرا لمدرسة الزبيري، ثم موجها بالتربية، والتعليم، ثم انتقل موجها بالمعاهد العلمية.
- في عام ۱۹۷۹م تم اختياره سكرتيرا لمؤتمر المناهج.
- عين رئيسًا للجنة إعداد مادة التاريخ، والتربية الاجتماعية، والسيرة في وزارة التربية، والتعليم، والمعاهد العلمية.
- عضواً في لجنة (المعادلة) بالمعاهد العلمية.
- عين مستشاراً في وزارة التربية، والتعليم قبل تقاعده.
- رئيسًا لتحرير صحيفة (الإصلاح) التي كانت تصدر في مدينة تعز.
- أمينا عاما لرابطة (طيف ) الأدبية في مدينة تعز.—
- عضوا للهيئة الإدارية بجمعية معاذ العلمية لخدمة القران، والسنة النبوية .
- عضوا في رابطة أدباء العالم الإسلامي،
- عضوا لمجلس أمناء منتدى الفكر الإسلامي بمحافظة تعز.
- عضواً بمجلس الشورى بمحافظة تعز، ثم نائباً لرئيس هيئة الشورى المحلية بالمحافظة.
- محاضرا، وداعية زار معظم المدن، والمحافظات اليمنية.
- ساهم في تأسيس (مدرسة الإصلاح) – بني شيبة الغرب- منتصف السبعينيات، وكذلك في تأسيس معهد ( المثنى بن حارثة الشيباني )، ومعهــد ( ذات النطاقين ) بنفس المنطقة في الثمانينات
- زار بعض الدول مرشدا، ومحاضرا، وسائحا منها : مصر، جيبوتي، الأردن، الصين، الولايات المتحدة الأمريكية ،السودان، تركيا، السعودية، هونج كونج، تایوان .
- سجل العديد من البرامج التلفزيونية لقنوات باليمن، والخارج.
- ساهم بالكتابة في عدد من الصحف، والمجلات اليمنية منها الجمهورية ،الصحوة ، الإصلاح الأهالي، الإرشاد، النور، نوافذ …… .
- له عمود أسبوعي في صحيفة الصحوة اليمنية بعنوان ( نفثات اليراع ) .
- له العديد من البحوث التربوية، والتاريخية منها ما نشر، وأغلبه ما زال مخطوطاً.
- ألف عددا من المسرحيات الهادفة.
- شارك في مؤتمرات متنوعة بالداخل، والخارج تتعلق بقضايا الأمة الإسلامية.
عاطفة، وتعلق
كان الأستاذ متعلق بالله، وبكتابه؛ صاحب عاطفة دينية، يتأثر بالقرآن، ويبكي مع آياته إذا خلا بنفسه، ويخشى أن ترى دموعه حتى لأقرب الناس إليه خوفا من الرياء، والسمعة.
أحب رسول الله -ﷺ- حبا ملك منه وجدانه، وهامت به نفسه، وكان كثيرا ما يردد بعد ذكر اسم النبي- الكريم- أنه فداً له، وكم أبكى الناس في محاضراته، وهو يتكلم عن الحبيب المصطفى -عليه الصلاة، والسلام- بحديث المستهام، المغرم برســـــول الله .
اتصف بالتعلق بالله- عز، وجل- منذ صغره ، فقد كان ملازماً للصلاة، حريصا عليها ، حببها إليه أحد معلميه ، وشجعه عليها في مراحله الأولى بمدينة عدن، كان كل ما رآه يصلي يثني عليه، ويمدحه، فأحب الصلاة، وما تركها بعد، وكان كثيراً ما يدعو له، ويذكره بالخير، ويستغفر له بعد كل صلاة.
كان شيخنا يحفظ القرآن، ولا يعرف ذلك إلا بعض خواصه المقربين، ولا يذكر، ويفاخر بحفظه بين الناس، وإذا صلى قرأ بصغار السور بشكل دائم .
حب يملؤ جوانحه لأمته
برزت في شخصية الأستاذ عاطفة جياشة، وروح مرهفة، رفيعة، كانت تتدفق بمشاعر الحب، والشفقة على كل شيء، ولا شك أن الأمة الإسلامية – التي ظل يدور في فلكها- قد نالها النصيب الوافر، وكل عناوين كتبه، ومقالاته، ومحاضراته تبوح بهذا العشق ،وتشي بتلك الشفقة، وهي لا تحتاج إلى إبراز .
كان شديد الألم على أمته من السقوط في وهدات التخلف التي تعيش فيها في هذا الزمن، لكنه كان أشد ألماً من شعور كثير من المسلمين بعقدة النقص، ومركب الدونية، وكان من أهم اهتماماته الثقافية العمل على تحرير الأمة من هذا الشعور المدمر، حيث سعى إلى إعادة ثقة الأمة بنفسها، ومن هنا ظهر اهتمامه بالجوانب المشرقة في التاريخ الإسلامي، حيث أبرزها في كتاباته، مثل كتاب ( الظهور الإسلامي)؛ وأبرز الأشعة المضيئة في حاضر المسلمين اليوم حتى بدا للبعض أنه متطرف في ذلك، حيث اشتهر عنه قوله “بأن الحضارة الغربية المعاصرة قامت على أكتاف المسلمين ليس فيما استفادته من التاريخ الإسلامي من منجزات، واكتشافات فحسب، بل من خلال العلماء المعاصرين الذين يعيشون في هذا الزمن في أمريكا، وأوروبا “.
اليسر، والتيسير:
من مظاهر هذه السمة أنه كان يصلي الجمعة في مساجد متنوعة، حتى في مرضه لموته، وكان يهوى على المساجد التي لا يطيل أصحابها في خطبة الجمعة كمسجد حديقة الحوبان، حيث كان يقطع مسافات طويلة من بيته إلى هذا المسجد، مع أن ذلك يأخذ وقتاً إضافياً، مما يؤكد أن حب اليسر، والتيسير طبيعة أصيلة في تكوين شخصيته، بمعنى أن المسألة مسألة مبدأ.
الولاء الوطني:
أحب الأستاذ الشيباني بلده اليمن إلى حد أنه أصيب بما يمكن تسميته بــالحمّى الوطنية – إذا جاز التعبير -، ظهر ذلك جلياً في مقالاته وكتبه ومحاضراته، وحواراته، وتعليقاته، ولهذا تجد اليمن نصيباً وافراً من مؤلفاته، وفي مقدمتها كتب : صحابة اليمن، اليمن في الكتاب، والسنة، إضافة إلى كتابي : الرجل الأمة معاذ بن جبل، ومعالم الإصلاح في حياة البيحاني .
تواضعه:
حين زاره الشيخ/ حميد عقيل إلى المستشفى في الجمعة الأخيرة من حياته، استقبله، وعانقه باكياً، وحين سئل عن ذلك ؟ أجاب: إنها من علامات الساعة أن تلد الأَمَةُ ربّتها !!، فقد كان يشعر بالخجل الشديد عندما يقول له الشيخ حميد عقيل يا
أستاذي!.. وذكر أنه ذهب ذات مرة لإلقاء محاضرة لبنات مدينة جبلة، وفي آخر المحاضرة سألنه سؤالاً فقهياً، فاستغرب أن بينهن الشيخ/ حميد ويسألنه هو، فقالت لـه إحداهن: لقد سألنا الشيخ/ حميد، فما كان منه إلا أن غضب، وغادرهن فوراً، لأنهن يسألنه بعد الشيخ/ حميد عقيل!!
عاشق الحرية:
لقد كان يعشق الحرية، ويهوى التمرد على القوالب الجامدة، والعوائد الصماء لدرجة أنه في بعض الفترات كان يخرج طلابه الذين يدرسهم في معهد تعز العلمي من الفصل، ليدرسهم في الهواء الطلق، فقد كان يبغض الجدر!
ومن شدة كرهه للرتابة كان كثير الرحلات، حيث تعرفه سائر المحافظات التي كان يُدعَى لإلقاء المحاضرات فيها، وبالذات في مواسم الرحلات، والمخيمات الصيفية، وكان يستمتع بآلام السفر، ويتلذذ بمتاعب التنقل.
علاقته بالقراءة، والكتاب:
منذ أن عرف الأستاذ/ عبدالملك الشيباني، ولديه عادات لا يمكن أن يتركها، أو يتخلى عنها سواء في حله ، أو ترحاله ، بل في معظم أيامه، حتى يوم العيد، والعطل ، وحتى في وعكاته الصحية التي كانت تلم به ، ومن هذه العادات مصاحبته للكتاب، وللقراءة، والاطلاع، والتدوين، والكتابة، والتأليف في بيته حيث لا يرتاح، ولا يجلس، ولا ينام إلا في مكتبته.
يبدأ مقيله بالحديث في كثير من شؤون الحياة، ثم يتبتل في محراب العلم قارئاً، وملخصاً، ومؤلفاً ،ومراجعاً لبعض تصانيف العلم لطلابه الذين يطلبون رأيه فيما يكتبون.
كان حريصا على وقته بأن يكون للفائدة، لذا كان يؤثر العزلة، لحرصه على الاستفادة من وقته، وقد يقرأ الكتاب مرة، ومرتين، بل إن بعض الكتب قرأها مرات، ومرات قد تصل إلى العشر.
علاقاته الأسرية:
كانت علاقة الأستاذ/ عبدالملك الشيباني بأولاده تقوم على زرع الثقة في نفوسهم، وتوجيهم عنــــد اللزوم ،وتصبيرا لهم على الحياة، واحتراما متبادلا , ومع انشغالات الأستاذ، وأعماله المتعددة كان الوقت الوحيد الذي يقضيه مع أولاده محدودا كوقت الغداء -غالباً -إن كان متواجداً في البيت، أو ساعة في الليل ، ومع هـذا الوقت القصير إلا أن الهيبة، والاحترام، والتوقير من قبل أبنائه كانت مميزة ، فإذا قال، أو أمر يسارعون إلى تنفيذ ما يريد بكل طاعة، وتفان , وإذا أرادوا منه شيئاً يتجهون إليه وقت فراغه، وبأدب جم يعرضون عليه بعض شؤونهم التي يطلبون منه رأيه فيها ، وذلك فضل الله عليه، حيث وقد أعطى وقته لله، فتكفل الله بهداية أولاده له، ورعايتهم بما يحب.
بين البداية، والنهاية:
بدأ الأستاذ/ عبد الملك حياته العملية، ومسيرته التربوية معلماً، وانتهى عَلَماً، فقد استمر يتعلم إلى آخر يوم في حياته، ففي يومه قبل الأخير من حياته- وفي بيته – استمر يناقش زواره في عدد من الموضوعات العلمية، والشرعية لمدة خمس ساعات متواصلة، فلاحظ الجميع أنه كان يكتب ما يسمع من معلومات جديدة، أو ملاحظات في ورقة كانت بيده .
ابتسامة الرحيل إلى الجليل الجميل:
مات الأستاذ/ عبدالملك الشيباني –نعم – مات مبتسما! وأسنانه البادية، وطلعته البهية ،ووضاءة وجهه الرضي شهود على ذلك، وقد شاهد ذلك كل من رأى الأستاذ، وهو مسجى بين محبيـــه الذين كانوا يبكونه، وهو كعادته لا يكف عن الابتسام !!
– تلقائية الجنازة: مات فجرا، ودفن ظهر اليوم نفسه رغم قصر الوقت بين الموت، والدفن إلا أنها تزاحمت مناكب المصلين في مسجد السعيد – أكبر مساجد تعز -، وازدحمت الشوارع بالسيارات، وازدانت بأفضل هامات تعز، وإب وامتلأت المقبرة بالمشيعين، واكتظت قاعة العزاء بالمعزين الذين كانوا يأتون، ويذهبون أفواجاً، عظيم في حياته، وعند مماته رحمة الله تعالى تغشاه، وجعل الجنة مثواه
شهادات
يقول أ/ عبدالمؤمن شرف – أحد تلاميذه: حضرت لشيخنا أول ندوة مازلت أتذكرها حتى الآن، فرغم صغر سنّي، ومحدودية تفكيري، إلا أنّ لغته السهلة، وأسلوبه المرح، وابتسامته المشرقة، جعلني أشعر كأنه يخاطب من هم في عمري فقط، لكن عندما رأيت حتى الكبار، مشدودين إليه، ومتفاعلين معه، وكلما أراد أن يتوقف يطلبون منه الاستمرار، تأكد لي فيما بعد، بأن شيخنا القدير، أسلوبه مؤثر في الصغير، والكبير.
يُحبُّ العلماء ويوصي باتباعهم
ويضيف أ/ عبدالمؤمن شرف: ” في رحلة إلى (بني يوسف) عام ۸۷م للأستاذ / عبد الملك الشيباني، كنت برفقته مع مجموعة من طلاب بني يوسف الدارسين في مدينة تعز، لحضور مهرجان في منطقتنا، وهو ضيف المهرجان فقال لنا: والله يا أبنائي أن الله رزقكم بأستاذ لن تجدوا أحدا مثله، فخذوا من علمه، واقتدوا به هو الأستاذ / محمد علي إسماعيل اليوسفي، ثم ختم بكلمة ما زالت محفورة في أعماق الذاكرة، عن الأستاذ/ محمد علي فقال-آنذاك -:”بصراحة مات السلف الصالح، وتركوا لنا رجلاً اسمه: محمد علي إسماعيل” (رحمة الله عليهما)
وفي رحلة أخرى، سافرت معه، وبعض الزملاء إلى مدينة جبلة بمحافظة – إب لزيارة الشيخ / حميد عقيل، فظل طول الطريق يحدثنا عن علم الشيخ/ حميد، وتواضعه، وزهده، ودعوته، والمشايخ الذين تربوا على يديه، ونهلوا من معين علومه وعندما وصلنا إلى منزل الشيخ/ حمید عقيل (حفظه الله) رأينا نموذجاً فريداً لطالب العلم، وهو يقبل يد، ورأس أستاذه، وبتواضع يجلس بين يديه، ويصغي لكل كلمة يقولها، وكأن على رأسه الطير، وشيخه كذلك بدا فرحا، ومستبشرا بوصول أحد طلابه الأجلاء، وقد أثمر علمه فيه، وصار علماً بارزا في العلم ،والدعوة، والتأليف، والقيادة.
فقيراً متعففا.. وأخاً منصفاً:
ويسرد أ/ عبدالمؤمن شرف قصة رحلة مع أ/ الشيباني فيقول: ” ذات مرة خرجنا معه بعد صلاة الظهر، في شهر رمضان المبارك، وبسيارته المتميزة (صالون تويوتا أخضر)، وتوجهنا إلى إحدى القرى القريبة من مدينة تعز، عندما طلب لإلقاء محاضرة فيها بعد صلاة العصر ،وعند وصولنا تلك القرية، استقبلوه أهل القرية، وإيانا بفرح منقطع النظير، وقد ألقى شيخنا محاضرة روحانية مميزة حتى قبيل أذان المغرب ، ونتيجة لتأخر الشيخ في المحاضرة صلينا المغرب في الطريق، ووصلنا المدينة الساعة السابعة بعد صلاة المغرب ، فقال لنا الشيخ حين وصولنا : صدقوني يإ خواني لا أدري كيف أفعل في موضوع العشاء، لا يوجد معي نقودا لنتعشى في أي مطعم، وسامحوني أخرتكم، وأنا طول الطريق أفكر بحل. أخبرناه أننا معنا مبالغ، سنجمعها، ونذهب نتعشى في أي مطعم، لكنه رفض وقال: مستحيل.. مستحيل.. ولكن خطرت على بالي فكرة، تعالوا معي، سنذهب إلى أخ عزيز علي، ألجأ إليه في مثل هذه ( الزنقات ) ، حينها ذهبنا في أزقة المدينة، وطرق باب منزل، فسمعنا شخصاً من داخل المنزل يرحب بالأستاذ فرحاً لمقابلته، وعندما خرج سأله الأستاذ / هل لديك عشاء لي، ولأصحابي الأربعة ، فرح هذا الأخ، وقال له، وهو فرح مبتسم : تفضل جئت في وقتك ، ويوجد عشاء يكفي حارة، دخلنا المنزل، فقدم لنا مائدة فيها مختلف الأطعمة، والفواكه، والحلويات ، وفي نهاية تناول وجية العشاء قال الشيخ : أعرفكم بأخي صاحب الكرم الأستاذ / علي بوتو صاحب مكتبة دار السلام .
كان الدعاء سلاحه.. وهو سر نجاحه:
يكشف أ/ عبدالمؤمن شرف عن سر كان يتميز به أ/ الشيباني، فيقول: ” الشيء الذي تميز به الشيخ / عبد الملك الشيباني – رحمه الله – هو التزامه بورده اليومي من الدعاء، والذكر، وكثرة الاستغفار؛ فتراه يتمتم بشكل متواصل لدرجة أن الذي لا يعرفه سيقول بأنه يُحدّث نفسه، وكان يكثر الصمت – قبل صلاة المغرب، وبعد صلاة الفجر-، ولا يترك قراءة المأثورات أبداً، سواء في حله، أو ترحاله، في الصباح، أو المساء ،بل كان يحثّ الآخرين كثيراً على قراءة المأثورات، وكل من عرفه، ولازمه يشهد بذلك.”
الشيباني.. ذاكرة التاريخ ..
يقول عنه أ/ زيد الشامي: ” الأستاذ/ عبد الملك محمد مرشد الجندبي الشيباني المؤرخ، الداعية، المربي، والكاتب؛ أحد الرواد الأوائل من أبناء الحركة الإسلامية اليمنية، عهدي به منذ أن عرفته خلوقاً، ودوداً، متواضعاً، لطيفاً، سهلاً، عصامياً، شهماً، مجاهداً، خفيف الظل، صاحب طرفة، ونكتة، موسوعة تاريخية، مخزناً للأمثال، والحكم؛ ظللت أرجع إليه حين تلتبس علــي حوادث، وقضايا التاريخ القديم، أو الحديث، فلا يبخل بالمعلومة الموثقة، والتحليل الأمين، والرؤية الثاقبة.”
ويضيف أ/زيد الشامي : ” بدأ/ عبد الملك الشيباني دراسته في عدن التي كانت قبلة للباحثين عن الرزق، وطالبي العلم، وفيها التحق بالمعهد العلمي الذي كان يشرف عليه الشيخ/ محمد بن سالم البيحاني- رحمه الله-، ثم انتقل إلى تعز، فأكمل فيها دراسته الثانوية، وحينها كان الصراع الفكري على أشده بين التيارات القومية، واليسارية من جهة، والتيار الإسلامي من جهة ثانية ، وكان الأستاذ/ عبدالملك أحد الشباب القوميين المتحمسين ضد كل ما هو رجعي، ومتخلف، لكن الشيباني بدأ في تغيير قناعاته بعد سماعه محاضرات الأستاذ /عبده محمد المخلافي، تلك الشخصية الآسرة المؤثرة، التي تجبر المستمع على الاقتناع، والتسليم بأن من يحمل هذا الفكر الإسلامي الناصع، وذلك الحماس الوقاد لا يمكن أن يكون عميلاً، ولا رجعياً، ولا عدواً للعروبة، ولا خصماً للحرية، والعدالة، والمساواة؛حينها يمم الأستاذ/ عبدالملك الشيباني وجهه صوب المركز الإسلامي في شارع ٢٦ سبتمبر بمدينة تعز، وهناك التقى فقيدنا عن قرب الأستاذ/ عبده المخلافي الذي كان رائداً لا يُشق له غبار، كما عـــرف الكثير من الأساتذة، والعلماء، وتعرف على أقرانه من الشباب، وتفتحت له آفاق الدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، وتعلم كيفية التخاطب مع الشباب بالتي هي أحسن، وأصبح أحد البارزين الذين يديرون ندوة المركز الأسبوعية التي تقام عصر كل جمعة، ووقتئذ كانت هي الحاضنة التي تقدم الزاد الفكري للشباب وترد على الشبهات المثارة ضد الإسلام، ودعاته.
ويقول أ/ زيد الشامي: ” الأستاذ/ عبد الملك الشيباني من قلائل رواد الحركة الإسلامية الذين دونوا، وكتبوا، وقد صدر له سبعة عشر كتاباً منها: اليمن ومكانتها في القرآن، والسنة، والعلم والعلماء، والظهور الإسلامي: فجر دائم، وشروق، مستمر؛ وشهيد القـــرآن، وفـــن الرحلات ،ومسيرة الإصلاح؛ وكتاب تخريج أحاديث اليمن، وأهله، ورجال الطبراني في الميزان؛ وقضايا، ومناقشات تاريخية … الخ إضافة إلى مشاركته في تأليف الكتب المدرسية للمعاهد العلمية، والتعليم العام، ومعاهد المعلمين.
يعشق الكتب، ويحرص على الوقت
يسجل أ.عبدالوهاب الميرابي شهادته عن تعلق الأستاذ/ الشيباني بالكتاب، والقراءة، فيقول : “منذ أن عرفت الأستاذ، ولديه عادات لا يمكن أن يتركها، أو يتخلى عنها في حله، وترحاله ، وفي معظم أيامه، حتى يوم العيد، والإجارات، بل ولا حتى في وعكاته الصحية التي كانت تلمُ به، من هذه العادات مصاحبته للكتاب، وللقراءة، والاطلاع، والتدوين، والكتابة، والتأليف؛ في بيته لا يرتاح، ولا يجلس، ولا ينام إلا في مكتبته، يظل بين الكتب في كل أوقاته ؛ والقراءة عند الأستاذ فعل يومي كـ المأكل، والمشرب، حتى في الأعياد لابد أن يتفرغ ساعات بين الكتب، ويقول: “لا أعتبر من عمري يوماً لا أقرأ فيه”.
وفي مرضه الذي توفي فيه كان بجواره دفترا صغيرا لاحظه كل من زاره يسجل ما يستفيده من الناس، أو تعن له خاطره عند حديث، أو تلوح له فكرة مشروع بحث، ومنه استفدت هذا الأمر، فأسجل ما أرى فائدته في خطبي، ومحاضراتي، وكان معظم وقته للعلم منذ أن عرفته إمّا عالماً، أو متعلماً، أو مستمعاً، أو قارئاً، أو كاتباً، أو محاضراً “.
ويذكر أ.الميرابي جدول أعمال الشيباني اليومي، فيقول : “يبدأ مقيله بالحديث في كثير من شؤون الحياة في بداية المقيل، ثم يتبتل في محراب العلم- قارئاً، وملخصاً، ومؤلفاً، ومراجعاً لبعض تصانيف العلم لطلابه الذين يطلبون رأيه فيما يكتبون، – من بعد صلاة العصر إلى قبيل نومه، ثم يسمع الأخبار فينام.
حريصا على وقته أن يكون للفائدة، لذا كان يؤثر العزلة لحرصه على الاستفادة من وقته، وقد يقرأ الكتاب مرة، ومرتين، بل إن بعض الكتب قرأها مرات قد تصل إلى العشر، وهو يبحث عن قضية، أو يؤلف كتابا، فيستعيد القراءة بشكل سريع، وكان ينأى عن الجدل في قضايا ليس هذا محلها، أو وقتها، وكان يقول: ليس من الحكمة أن نتكلم عن الفرح وقت المأتم، والعكس، فلكل حادثة حديث، ولكل مقام مقال، ويقول: ليس من الحكمة تأخير البيان عن وقته.
ليس للأستاذ قراءة في كتب مخصصة، فهو يقرأ كل ما يقع تحت يده، وله عبارة كثيراً ما كان يرددها في محاضراته (إقرأ شيئا عن كل شيء، واقرأ كل شي عن تخصصك )
متعة السفر معه
يقول أ.عبدالوهاب الميرابي: ” السفر مع الأستاذ/ الشيباني- رحمه الله- متعة لا تضاهيها متعة من جميع الجوانب منذ الانطلاق، وحتى العودة، رحلة علم، وفائدة، وتفريج هم، وأدب، وتاريخ.
إذا مرّ بمنطقة حكى لك بعض عاداتها، وما يعرف من تاريخها، ومن رجالها، وعن الأماكن التي يعرف أنها تحمل نفس الاسم، ويستعيد ذكريات سابقة له فيها، أو بعض الطرائف التي سمعها عن أهلها، وما أشتهر عن هذه المنطقة من عادات، وتقاليد، فلا تعود إلا وقد أضفت جديداً، واستفدت علوماً قل أن تجتمع عند شخص”.
ويضيف : ” وللرحلات عند الأستاذ هدف، وغاية، فكانت سيارته مسرحاً متنقلاً، تضم المنشد، والمقرئ، والشاعر، والمسرحي، وصاحب الإلقاء الجيد، ففي أي منطقة نذهب إليها، نقيم الأسمار بجوار محاضراته؛ ومع الأستاذ تخرج، وتدرب كثير من المنشدين، والمسرحيين، وصقلت مواهبهم نتيجة رعاية الأستاذ لهم ، وتقديمهم للناس.
أسفاره تربية، وتعليم ،عرف خلالها أجيالاً، وأجيالاً، ورافقة خلال هذه السنوات المئات، يأتون، ويذهبون إلى مناحي الحياة المتنوعة، فتلقى اليوم ممن تخرجوا من مدرسة رحلات الأستاذ : الدكتور الجامعي، والطبيب، والمهندس، ورجل الأعمال، والأستاذ، والمدير، والمحامي، ستجد أن للأستاذ طلابا استفادوا من رحلاته، كما استفادوا من علومه، ولا شك أن للرحلات دورها في التربية، وزرع القيم الإسلامية، واكتشاف جوانب شخصية في الأفراد تظهر بالأسفار، وتبرز كالإيثار، والصبر، وتحمل المشاق، وغيرها” .
ويختتم أ.عبدالوهاب الميرابي شهادته، وذكرياته مع أ.عبدالملك الشيباني، فيقول : ” على مثل الأستاذ فلتبك البواكي، وتدمع العين، ومن الواجب علينا أن ندعوا له بكل وقت ، وإنني لأؤثر الاختلاء بعيدا مع الذكريات التي عشتها مع أعز الناس إلى قلبي، وأحب الخلق ممن عايشتهم، فلم أجد له من وفاء إلا دموع العين، والرضا بالقضاء، والقدر، والدعاء له ما عشت؛ والله أسأل أن يجبر كسرنا على فراق أستاذنا، ويلهمنا جميعا- وفي المقدمة أسرته، وأبنائه- الرضا، والسلوان، وأن يربط على قلوبنا، وأن يجمعنا في مستقر رحمته كما جمعنا في الدنيا إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير.
اقرأ أيضا: الشيخ عبد الله سيف الحيدري .. شيخ الدعوة، والفكر، والتربية