ما ذئبان جائعان

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا إلى غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) رواه احمد في مسنده وإسناده صحيح. والمقصود بفساد دين المرء؛ تفريغه من العنصر الدافع للعمل بنية التعبد لله، الى أن يصبح شكلا دون مضمون ليس له أثر في سلوكه فيكون المحرك للعمل هو الهوى.
أولا: المنطلق الحقيقي للمؤمن هو تعلقه بربه دون سواه في كل شيء
- إن تعلق المؤمن بربه في كل شؤونه هو الأساس في حياته الدنيا والآخرة قال تعالى (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) الأنعام 162 وقال الرسول صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) حديث حسن أخرجه الألباني في صحيح الجامع وقال الرسول صلى الله عليه وسلم (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وألا يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)
- ومن تعلق المؤمن بربه طلبه رزقه منه سبحانه وتعالى وحده بعد ما يؤدي الأسباب قال تعالى (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) [الذاريات 58] وهذا هو التعلق الحقيقي للمؤمن الذي يجعله قريبا من الله سبحانه.
ثانيا: التعلق الوهمي
- فإذا تعلق المرء بالمال تعلقا شديدا ضعفت علاقته بالله سبحانه وتعالى قال تعالى (وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما) [الفجر20] وبالتالي يضعف إحساسه برقابة الله عليه فينتج عن ذلك ما يلي:
- اغتراره بالمال قال تعالى (فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا) [الكهف 34]
- يتجاوز ماله من حقه إلى حقوق غيره سواء كان الغير مالا خاصا أو مالا عاما قال تعالى: (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) فينشئ عنده الطمع وهذا مدخل من مداخل الشيطان فيستدرجهم خطوة خطوة والله تعالى قال: (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر …) [النور21]، فيأتي له من الطرق الأتية:
- طريق التساهل بالمال العام ويخوض فيه قال تعالى (وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)[أل عمران 161], عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ ، فَذَكَرَ الْغُلُولَ ، فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ ، ثُمَّ قَالَ : ” لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ ، يَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَغِثْنِي ، فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا ، قَدْ أَبْلَغْتُكَ ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ ، فَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَغِثْنِي ، فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا ، قَدْ أَبْلَغْتُكَ ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ ، يَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَغِثْنِي ، فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا ، قَدْ أَبْلَغْتُكَ ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ ، فَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَغِثْنِي ، فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا ، قَدْ أَبْلَغْتُكَ ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ ، فَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَغِثْنِي ، فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا ، قَدْ أَبْلَغْتُكَ ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ ، فَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَغِثْنِي ، فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا ، قَدْ أَبْلَغْتُكَ ” رواه البخاري ومسلم
-
- (رغاء) صوت الإبل، (حمحمة) صوت الفرس دون الصهيل، (ثغاء) صوت الشاة
- (الصامت) الذهب والفضة
- وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم رجلا اسمه كركرة يحفظ الغنائم فمات فقال الرسول صلى الله عليه وسلم (هو في النار) فذهبوا ينظرون إليهم فوجدوا عباءة قد غلها (أخذها) أخرجه مسلم
- وفي حديث ابن اللتبية قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يأخذ أحدكم منها شيئا إلا جاء به يحمله يوم القيامة على رقبته أن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة (تعير) (تردد بين هذا وذاك) وروى عنه أيضا (وفرس له حمحمه) وفي حديث (أن الشملة التي غلت في المغانم يوم حنين لتشتعل عليه نارا) ومجيئه بما غل فضيحة له على رؤوس الأشهاد يوم القيامة
-
- طريق التأويل (مثل الرشوة تؤول بالهدية والربا بالفائدة والاستقطاعات من رواتب الناس بالتأديب بسبب التقصير فإذا كانت الاستقطاعات بصفة قانونية وروددت إلى الجهات الرسمية فلا غبار عليه وأما إذا كانت الخصيمات تورد الى جيوب المستقطعين وبطريقة تعسفية فهذا حرام
- فرض إتاوات غير قانونية دون سندات رسمية قال الرسول صلى الله عليه وسلم (كل المسلم على المسلم حرام: ماله وعرضه ودمه حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) رواه احمد وصححه الألباني
- أخذ الراتب دون عمل مع أن الإنسان يأخذ الراتب مقابل عمله قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود …..) المائدة 1 وقال الرسول صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم) رواه البخاري وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما)29 النساء
- إهمال العمل والحرص على المرتب فقط أو استيفاء حقه كاملا وعدم الاعتبار لحقوق الأخرين قال تعالى ((ويل للمطففين (1) الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون (2) وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون (3) ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين (4))) المطففين.
ثالثا: حرص المؤمن على عدم أو ضعف الإنفاق في سبيل الله أسباب ذلك:
- ضعف شعور المرء بأنه مسؤول عن المال أمام الله تعالى قال الرسول صلى الله عليه وسلم (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن جسده فيما أبلاه وعن ماله من أين أخذه وفيما أنفقه وعن علمه فيما عمل به ) فيتغلب عليه الشيطان قال تعالى (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم ) 268( البقرة) فيمنعه من الإنفاق في سبيل الله أو يجعله ينفق قليلا مع قدرته على الإنفاق اكثر مما أنفق ويفتح له أبواب للإنفاق غير مشروعة أو لا ينتفع بها وبصورة كبيره .
- إنفاقه رياء أو يتبعه منا وأذى للمنفق عليه قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر) البقرة 264
- إنفاقه في غير محله قال تعالى (وات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا * إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا )26-27 الإسراء
- الإسراف في الإنفاق قال تعالى (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين)31 الأعراف
رابعا: المطلوب من المؤمن المجاهد في سبيل الله أن يضع أولويات للإنفاق بحسب الأهمية
مربع الاهتمامات: وهناك أربع مربعات أمام المؤمن يترتب على ذلك إنفاقه على ضوء هذه المربعات:
- مربع الضياع: وهو الإنفاق على أمور لا ينتفع بها (الأمثلة): إنفاقه على شراء القات ليستخدمه للكيف فقط.
- مربع الخداع: وهو الإنفاق على أشياء أو أمور أو نشاط يتوهم أن لها إثر فاعلا فيتبين أن الأثر قليلا لا يتناسب مع حجم الإنفاق أو عدم الأثر أصلا (الأمثلة): إنفاقه للكماليات التي قد لا ينتفع بها أو على نشاط لا يحقق الهدف
- مربع التنفيذ: وهو الإنفاق على الأمور أو النشاط الحالي وهذا مطلوب ولكنه لا يستغرق معظم الإنفاق (الأمثلة): الإنفاق على النشاط اليومي والأسبوعي والشهري والذي ينتهي أثره بانتهاء تنفيذ النشاط وكذلك الإنفاق على تعليم طلاب وطالبات ليس لهم طموح طويل المدى أو النشاط التدريبي المرتجل
- مربع المستقبل: وهذا يحتاج الى الاهتمام لان يرصد له إمكانات لتحقيق استراتيجية المستقبل، الأمثلة:
-
- الإنفاق على مشاريع التعلم الطموحة وعلى الطلاب والطالبات الذين لديهم طموح لنيل اعلى الدرجات العلمية ولديهم مشاريع لحياتهم ينفعون أنفسهم وأسرهم والمجتمع
- الإنفاق على التدريب وفق خطط وبرامج تكسب المستهدفين مهارات حياتية نافعه يستفيدون منها في حياتهم
رابعا: الأثار السلبية على الحريص الذي يجمع المال من أي طرق دون التقيد بالضوابط الشرعية فتفسد له دينه ودنياه ونوجز ذلك بما يلي:
إفساده لدنياه وهي كما يلي:
- يخسر ثقة الناس به فيتعامل الناس معه بحذر ويعزف كثير من الناس عن التعامل معه فيؤدي ذلك الى خسارته في الدنيا قبل الآخرة
- يقل دخله وربما يصل الى درجة العوز فبعض الناس كانوا ميسري الحال فأصبحوا معوزين بسبب ذلك والأمثلة كثيرة على ذلك
- قد تتراكم عليه الديون فيضايقه أصحابه الديون وقد يضطرهم ذلك الى رفع قضايا ضده ويحكم عليه بالتفليس ويقسم ماله على الدائنين أو يسجن
وأما إفساده لدينه:
- مؤشرات الفساد: أن مؤشرات الفساد تظل واضحة المعالم تنتشر وتتفشى داخل المجتمع و يتجسد ظهورها بصيغ مختلفة تتمثل في:
- شيوع ظاهرة الغنى الفاحش والمفاجئ في المجتمع
- شيوع ظاهرة الرشوة حتى تصبح هي الأصل في التعامل
- انتشار ظاهرة المحسوبية والولاءة الضيقة في شغل الوظائف العامة وليست الكفاءة وتكافؤ الفرص
- غياب مبدأ تكافؤ الفرص في شغل الوظائف
- ضعف الرقابة وظهورها بصورة شكليه دون محتوى حقيقي وإهمال نتائجها أن وجدت
- الاستغلال السيء للوظيفة لتحقيق مصالح ذاتية على حساب المصالح الموضوعية
- الخروج المقصود عن القواعد والنظم العامة لتحقيق منافع خاصة
- بيع الممتلكات العامة لتحقيق منافع ومكاسب خاصة
- انتشار ظاهرة الابتزاز متمثلة في التعقيدات الإجرائية والروتين الذي يؤدي الى هروب رؤوس الأموال
- الوساطة: أي التدخل لصالح فرد ما أو جماعة ما دون الالتزام بأصول العمل والكفاءة اللازمة مثل: تعيين أشخاص في مناصب معينة لأسباب تتعلق بالقرابة أو الانتماء رغم كونهم غير أكفاء
- غسيل الأموال: وهي عملية إخفاء المصدر غير القانوني لهذه الأموال وتحويلها ودمجها في الاقتصاد.
والمطلوب لمواجهة هذا الفساد خطة استراتيجية شاملة لإحياء الإيمان في قلوب المؤمنين بحيث يكون هو الدافع الأساسي لإعادة العدل بمختلف صوره في المجتمع من القمة الى القاعدة ومن القاعدة إلى القمة وإنهاء الظلم وأشكال الاستقلال في جميع جوانب الحياة من خلال رابط إحياء الرقابة الإلهية الى جانب الرقابة والمحاسبة البشرية
وأما إفساد السلطة لدين المرء فهي كالاتي:
الأصل أن الإنسان إذا مكن الله له ومنحه سلطة فلابد أن يشعر بان الله أراد أن يبتليه فيها فاذا أدى حقها من هداية للناس الى الله ونشر العدل بينهم والمشاركة في تنمية المجتمع وتحقيق الخدمات العامة والخاصة فان الله يجعل له مكانة متميزة قال تعالى (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) الأعراف (159) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل ألا ظله: أمام عادل …) رواه مسلم
ولكن اذا لم يقم بحقها فان الله يعاقبه عقوبة شديدة في الدنيا والأخرة أما في الدنيا فانه قد ينعم بالسلطة لفترة محددا وينتهي به الحال الى السجن أو القتل وأما في الآخرة قال الرسول صلى الله عليه وسلم ( ما من رجل يلي امر عشرة فما فوق ذلك ألا أتى الله عز وجل مغلولا يوم القيامة يده الى عنقه فكه بره أو أوبقه اثمه أولها ملامه وأوسطها ندامة وأخرها خزي يوم القيامة ) رواه احمد والطبراني وصححه الألباني وقال الرسول صلى الله عليه وسلم ( ما من أمير يلي امر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة ) رواه مسلم. ومن عقوبة الله للإنسان الذي لم يقم بحق ما منحه الله من سلطان عدم توفيقة له باستغلاله ليسعد به في الدنيا والأخرة وإنما يستغله في الدنيا فقط قال تعالى (فمن الناس من يقول ربنا اثنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلق) البقرة (200) فيسخره فيما يلي:
- في ظلم الناس قال تعالى (والله لا يهدي القوم الظالمين) البقرة (258) أل عمران (86) التوبة (19) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم (أفضل الناس منزلة يوم القيامة إمام عادل رفيق وشر عباد الله عند الله منزلة يوم القيامة إمام جائر) رواه الطبراني
- استغلال السلطة لأغراض شخصية أو حزبية
- يعتبر العمل بحسب المزاج لا يهمه حقوق الأخرين المرتبطة به فيتعبهم بمتابعته قال الرسول صلى الله عليه وسلم (اللهم من ولي امر امتي شيئا فرفق بهم فارفق به ومن ولي امر امتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه) رواه مسلم
- أو يتعامل من خلال المحسوبية قال الرسول صلى الله عليه وسلم (ما من عبد يستر عيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) اخرج في الصحيحين
- أو يتعامل بالرشوة قال الرسول صلى الله عليه وسلم (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما) أخرجه الحاكم واحمد.