التوبة تقويم للذات والنظر للمستقبل

الحقيقة أن التوبة هي قدرة على التفاعل مع متطلبات المثل الأعلى ومراجعة المنجزات وصقل التفكير وتنمية القدرات العقلية التسخيرية والإرادات العازمة النبيلة المؤهلة للتكامل مع مسيرة التاريخ وعبور المستقبل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه ليغان على قلبي وإني أستغفر الله في اليوم مائة مرة) صحيح مسلم
- حين تتأصل التوبة في القيم والعادات تشيع النقد الذاتي فتنجو الأمة من تراكم الأخطاء وتمضي في مدارج الترقي
- التوبة الصادقة تحيل الذنب أو الخطأ إلى خبرة مربية تقود إلى معارف أعلى وتفكير أعمق وتتحول السيئات إلى حسنات قال تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما) الفرقان (70).
أولاً/ معنى التوبة:
- مأخوذة من توب وهو الرجوع إلى الله بحل عقدة الإصرار عن القلب ثم القيام بكل حقوق الرب.
- والمراد بالتوبة: ترك الذنب مخافة الله واستشعار قبحه والندم على المعصية من حيث (هي معصية والعزيمة على عدم العودة إذا قدر عليها وتدارك ما يمكن ان يتدارك من الاعمال والتعويض).
ثانياً/ حقيقة التوبة:
التوبة شعور بالندم على ما وقع وتوجه إلى الله فيما بقى وكف عن الذنب وعمل صالح يحقق التوبة بالفعل كما يحققها الكف بالترك.
ثالثاً/ وجوب التـوبة وضرورتها:
- قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا توبو إلى الله توبة نصوحا….) التحريم (8)
- قال تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعا ايها المؤمنون لعلكم تفلحون) النور(31)
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا ايها الناس توبوا الى الله واستغفروه فإني اتوب الى الله في اليوم مائة مرة) رواه مسلم
- من لم يتب فهو ظالم قال تعالى: (…ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) الحجرات (11)
رابعاً/ أهمية التـوبة والتائبين وتتمثل بالآتي:
- تبديل السيئات حسنات قال تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات…) الفرقان (70)
- مناداة الله للمسرفين من عباده بالتوبة قال تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله …) الزمر(53)
- كلف الله ملائكته ليستغفروا للتائبين قال تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين امنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم) غافر(7-9)
- التوبة والاستغفار سبب للحياة الطيبة واستحقق فضل الله قال تعالى: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا اليه يمتعكم متاعاً حسناً الى اجل مسمى ويؤتي كل ذي فضل فضلة) هود(3)
- جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الخيرية في التوابين بقوله: (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) رواه ابن ماجه والحاكم
- حث الله المؤمنين على التوبة النصوح قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) التحريم ( 8) .
- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب العبد المؤمن المفتُن التواب) رواه البيهقي ضعيف
- المفتن: المبتلى كثيراً بالسيئات أو بالغفلات أو بالحجب عن الحضرات الإلهية أو يبتلى بالعجب والغرور.
خامساً/ التوبة النصوح: تجمع اربعة امور
- الاستغفار باللسان
- الإقلاع بالأبدان
- إضمار ترك العودة بالجنان
- مهاجرة سيء الأقران
سادساً/ عوامل التوبة النصوح ونلخصها على النحو الاتي:
العامل الأول: العلم
- {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم}[الحج:54]
- وقال تعالى: (والذين إذا فعلوا فاحشة او ظلموا أنفسهم……) ال عمران (135)
- وقال تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك) محمد (19) .
العامل الثاني: الجانب الوجداني الإرادي:
- ما يتصل بالماضي (الندم اللاذع)
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة) اخرجه ابن ماجه
- قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم}[التوبة:118]
- وحكى الله عن آدم بقوله: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) الاعراف (23)
- وعن نوح قال تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِين [هود:46-47].
- وعن موسى حين وكز القبطي : (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِين قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم }[القصص:15-16].
- قصة ذي النون قال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِين}[الأنبياء:87]
- فيما يتعلق بالمستقبل :
- العزم الجازم على عدم العودة
هل يشترط استمرار العزم حتى الموت؟
- فيه قولان الاول: يشترط استمرار العزم وإذا عاد بطلت التوبة السابقة، الدليل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر) رواه البخاري
- القول الثاني: المطلوب العزم وقت التوبة فإذا وقع في الذنب نفسه فلا تبطل التوبة السابقة والدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون}[آل عمران:135]
العامل الثالث الجانب العملي في التوبة:
عناصر الجانب العملي:
- الإقلاع عن المعصية في الحال قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) العنكبوت (69)
- الاستغفار قال تعالى: (ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) الاعراف (23)
- تغيير البيئة والأصحابK قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً}[الفرقان:27]، قال تعالى: {الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِين}[الزخرف:67]، قصة الذي قتل مائة نفس حديث صحيح.
- إتباع السيئة الحسنة: قال تعالى: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل ان الحسنات يذهبن السيئات) هود(114)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقِ الله حيث ما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن) رواه احمد والترمذي .
سابعاً/ كيف تكون التوبة؟ تكون بالآتي:
- التوبة من الذنب أو المعصية
- الانتقال من عمل إلى عمل أحسن منه
- الانتقال من خلق حسن إلى خلق أحسن منه
- الانتقال من عادة سيئة الى عادة حسنة أو من عادة حسنة إلى عادة أحسن منها، قال تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) البقرة (222)، والتوبة مطلوبة بهذا المفهوم من الجميع حتى الرسل، قال تعالى: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيم}[التوبة:117]
- وطلبت التوبة في مواقف الانجاز وتحقيق الانتصارات التزكية من العجب المفضي الى مرض الطغيان في جانب الاستضعاف قال تعالى: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر: 1-3]
- الاستغفار والتوبة: إذا اقترن الاستغفار بالتوبة دخل كل واحد في الاخر, قال تعالى ( واستغفروا ربكم ثم توبوا اليه إنه رحيم ودود ) هود (90)، وإذا اقترنتا في سياق واحد كما في قوله تعالى: (…فسبح بحمد ربك واستغفره…) كان الاستغفار يعني طلب وقاية شر ما مضى من ذنوبه والتوبة تعني الرجوع وطلب وقاية شر ما يأتيه في المستقبل من سيئات أعماله.
ثامناً/ الاستغفار:
أهميته
- قال الله عن نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا }[نوح: 10-12]
- وقال الله عن هود : {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِين}[هود:52]
- وقال الله عن صالح: (…فاستغفروه ثم توبوا اليه ان ربي قريب مجيب) هود ( 61)
- وقال الله عن شعيب: (واستغفروا ربكم ثم توبوا اليه ان ربي رحيم ودود) هود (90)
- وقال الله عن خاتم النبين: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِين}[فصلت:6]
- والناس بحاجة اليه قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين}[آل عمران:133]
- وقال تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيم}[الصف:10]
- وقال عن عباده: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَار}[آل عمران:17]
شروط الاستغفار وآدابه:
- الشروط
- صحة النية والإخلاص، قال تعالى: (وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) سورة البينة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ….) رواه مسلم
- أن يواطئ القلب اللسان على الاستغفار
- الآداب
- الاستغفار على طهارة
- أن يستغفر الله وهو بين الخوف والرجاء، قال تعالى: (غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب) سورة غافر
- يتخير الأوقات الفاضلة، قال تعالى: (والمستغفرين بالأسحار)، وقال تعالى: (وبالأسحار هم يستغفرون)
- في الصلاة وفي السجود وقبل السلام، علم الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يقول في الصلاة قبل السلام (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كبيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفرلي مغفرةً من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) رواه مسلم
- أن يدعو لنفسه وللمؤمنين، قال تعالى: (ربي اغفرلي ولوالدي وللمؤمنين والمؤمنات يوم يقوم الحساب) ابراهيم (41)
- ان يدعو ويستغفر بالصيغ المأثورة، (ربي اغفر لي وتب علي إنك انت التواب الرحيم)
هل ينفع الاستغفار مع الإصرار؟!
هناك ثلاثة أقوال:
- القول الأول: ينفع بإطلاق وإن لم يكن معه عزم توبة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان الله يحب العبد. المؤمن المفتُن التواب) رواه البيهقي (ضعيف).
- القول الثاني: لا ينفع بإطلاق حتى يكون معه توبة.
- القول الثالث: التفصيل.
إن الاستغفار بمجرد اللسان ينفع المستغفر إذا صحت عنده حرارة الابتهال والصدق في السؤال والتضرع في الحال والشعور بالفقر الى المغفرة والادلة السابقة تشهد لهذا القول أولاً وثانياً الاستغفار في ذاته حسنة تصلح لتكفير السيئات وثالثاً أن الله وعد أنه لا يضيع عمل عامل، قال تعالى: (إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا) الكهف (30).