إكرام النساء: المنهج النبوي السوي لبناء المجتمع س

في خضمّ الضجيج الفكري المعاصر، وتشعب الرؤى حول مكانة المرأة، يبرز المنهج النبوي شامخاً بوضوحه واتزانه، مقدماً صيغة متكاملة في التعامل مع المرأة تكرم إنسانيتها وتحترم دورها.
فلم يكن الرفق بالنساء مجرد سلوك عابر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان منهجاً تشريعياً وأسساً أخلاقية أراد منها بناء مجتمع قائم على المودة والرحمة.
الأساس النبوي .. بين الرفق والإكرام
يأتي التأسيس النبوي مؤكداً على قيمة المرأة من خلال مفهومين متلازمين: الرفق وهو اللين واللطف في المعاشرة، والإكرام وهو التقدير والاحترام في المقام. وقد جسّد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنهج قولاً وفعلاً.
من مظاهر الرفق والإكرام في السنة
- الخلق الطيب معهن: روى الإمام الترمذي وحسنه الألباني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ» هنا يربط النبي صلى الله عليه وسلم بين كمال الإيمان وحسن الخلق، ويجعل معيار الخيرية في الرجال مرتبطاً بمعاملتهم لنسائهم، فليس الخير في القوة الجافة أو السيادة المتعالية، بل في القدرة على التحلي بالرفق والتكريم.
- التوصية بهن خيراً: في حجة الوداع، وهي الخطب الجامعة للقيم العليا، أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء خيراً، فقال كما في الصحيحين: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا». هذه الوصية الجامعة تضع إطاراً عاماً للتعامل مع المرأة، يحتم على الرجل أن يتلمس الخير في كل وسائل تعامله معها، من القول والفعل والخلق.
- الرفق بهن منهج حياتي: لم يكن هذا الرفق نظرياً، بل كان سلوكاً يومياً، ففي الصحيحين عن الأسود بن يزيد قال: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها: مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: «كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ – تَعْنِي: خِدْمَةَ أَهْلِهِ – فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ» هذا الفعل النبوي يرفع من قيمة المشاركة الأسرية وينزع قدسية الزعمة الذكورية المتعالية، ويجسد الرفق العملي بتخفيف أعباء الحياة عن المرأة.
- عدم كره المرأة وكظم الغيظ عند النزاع: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم طبيعة العلاقات الإنسانية وما قد يحدث فيها من شد وجذب، فوجه الرجال إلى الحكمة في التعامل مع حالات النفور، فقال كما في صحيح مسلم: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ». أي لا يُبغضها، فإنه إذا كره منها خلقاً وجد فيها ما يرضيه. وهذا توجيه عظيم يحفظ كيان الأسرة من الانهيار لأسباب بسيطة.
- الإكرام المادي والنفسي: من الإكرام أن ينفق الرجل على امرأته دون منّ ولا أذى، بل بشوق ورضا. قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: «دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ». فجعل الإنفاق على الأسرة من أعظم القربات.
الفوائد العقلية والاجتماعية لتحقيق هذا المنهج
- استقرار الأسرة: الرفق هو أقصر طريق إلى قلب المرأة، وهو الضمان الحقيقي لاستقرار الأسرة وتماسكها، مما يقلل من نسب الطلاق والمشكلات الأسرية.
- تنشئة جيل سوي: المرأة المكرَّمة المرفوق بها تكون نفسيتها مستقرة، وقادرة على العطاء والبذل، مما ينعكس إيجاباً على تربية الأبناء وتنشئتهم نشأة سوية.
- تعزيز القيم الأخلاقية في المجتمع: عندما ينتشر الرفق كثقافة مجتمعية، فإنه يقضي على أشكال العنف والقسوة، ويُعيد للمجتمع توازنه الأخلاقي.
تحقيق الطمأنينة النفسية: يشعر الرجل نفسه بالطمأنينة والسكينة عندما يرى أثر رفقه على من حوله، فيتحول البيت إلى سكن حقيقي، وهو ما حث عليه القرآن بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21]. - النجاة في الآخرة: بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن إحسان الرجل لامرأته هو أحد مفاتيح السعادة في الدنيا والآخرة، محذراً من إهمال هذه المسؤولية.
الرفق بالنساء وإكرامهن ليس ترفاً فكرياً أو مجرد دعوة أخلاقية، بل هو استثمار حقيقي في بناء الحضارة الإنسانية. إنه المنهج الذي يجمع بين حكمة العقل ودفء القلب، ليقدم نموذجاً متكاملاً يحترم المرأة ويكرمها، ليس من منطلق رد الفعل على ثقافات أخرى، بل من منطلق الانطلاق من يقينيات الوحي وهدي النبوة، فبقدر ما يتحلى الرجال بهذا الخلق الرفيع، تزدهر الحياة الأسرية، ويُبنى مجتمع يقوم على الرحمة والعدل، تحقيقاً لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].