الذنب في ميزان الشريعة

يَظُنُّ كثيرٌ من الناس أن أحكامَ الجزاءِ في الآخرة مرتبطةٌ دائماً بوضوح الظاهر: من قتلَ أو تركَ الصلاة يُعذَّب، ومن قامَ وصامَ بكثرةٍ يَدخلُ الجنة. لكن قراءةً متأملة في كلام الله وسنة النبي ﷺ وسيرِ الصالحين تكشف أن ميزان الرب أعمقَ وأدقّ من مجرد عددٍ من الركعات أو الأيام.
ميزان الأعمال في الشريعة
كم من ذنبٍ رَآه الناسُ هينًا فأدّى إلى عقوبةٍ، وكم من عملٍ صغيرٍ رُقّي بصِدق النية فغنم صاحبه قبولًا ومغفرةً. عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ مرَّ بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير…» — وهذه الرواية تذكّرنا أن الذنب الصغير حين يدلُّ على استخفافٍ بحدود الشريعة أو فسادٍ في القلب قد يكون عظيمًا عند الله.
أيضًا ليست الجنة حصراً لمن كثرَ من الحركاتِ والمظاهر، بل لمن ملأ قلبَه خشيةً وصدقًا وإخلاصًا. يقول السلف عن أبي بكر رضي الله عنه: لم يكن سابقًا بكثرة صيامٍ ولا صلاة، لكن كان شيءٌ وقر في صدره — فالقيمة الحقيقية للعمل في الإخلاص وعمق الإيمان. وذُكر عن من اتسموا بالورع أن نور الخشية في وجوههم كان أبلغ من تراكمِ الأعمال الشكلية.
في القرآن نجد تكرارًا لهذا المعنى: ذنوبٌ تُحْسَبُ هينةً في أعين الناس وقد تُذكر في كتاب الله بأنها عظيمة؛ والتقوى هي المعيار الذي قال الله فيه: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم» — فلم يشر الربّ إلى حساب الركعات أو الصيام فقط، بل إلى معدن القلب.
كما أن الحديث الَّذي ابتدأ به العلماءُ طريقَ الفهم: «إنما الأعمال بالنيات» يضع قِيعادَ الميزان — فالنية تُحدِّدُ قيمةَ العمل، فبدرهمٍ واحدٍ قد يفتحُ باب رحمةٍ، وبألفٍ قد يذهبُ العملُ إن كانت النفوسُ مريضةً بالرياء أو الطمع في السمعة.
لماذا الذنب الصغير قد يكون كبيراً في ميزان الشريعة
الذنب الصغير قد يحمل صفاتٍ تجعله مُخيفًا عند الميزان:
- يدلُّ على استخفافٍ بالشرع أو قِلّة ورع.
- يبيّن خللاً في الأخلاق (كالنَميمة أو السخرية أو عدم الاستبراء).
إذا استمرَّ بلا توبة صار عادةً تُكبِّل القلب وتُضيع ثمار العبادة. ولهذا حذّر السلف من الاستخفاف بالصغائر: «لا تنظر إلى صِغَرِ الذنب، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت».
كيف ننجو من هذه الذنوب
للنجاة طريق: خشيةٌ صادقة، عملٌ صالح مُخلص، توبةٌ مستمرة، واهتمامٌ بتنقية القلب. والنبي ﷺ كان يدعو كثيرًا: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر…» — فالبداية هي الوازع والخشية، ثم العمل المقبول بالتوبة والإخلاص.
خطوات عملية لحماية القلب وتحصين العمل
إليك مجموعة خطوات عملية قصيرة وسهلة التطبيق تساعد على تحويل العبادة من كميةٍ إلى جودةٍ تُرضي الله:
- راجع نيتك قبل كل عبادة — اسأل نفسك: لماذا أفعل؟ هل أبتغي وجه الله؟
- اجعل الاستغفار عادة يومية: استغفر كثيرًا وادخل في دعاء يُخلص العمل.
- احفظ لسانك: نميمةُ اللسان وسوء الخلق من أبواب النقائص التي تُسقط ثمار العبادة.
- اعتنِ بالطهارة الظاهرة والباطنة: الاستبراء من الطهارة الجسدية، والحفاظ على طهارة الذهن والنوايا.
- اجعل الصِدق والخشية رفيقي كل صلاة وصيام وصدقة — أفضلُ الأعمال ما خالطته خشية الله ورجاء رحمته.
- صحِّح علاقتك بالناس: من إصلاحِ ذاتِ البين وتركِ النميمة تُفتح لك أبواب رحمةٍ واسعة.
- المواظبة أفضل من الكثرة المضطربة: قليل دائم بخشية خيرٌ من كثيرٍ بغير إحسان.
لا تكن مُغرورًا بكثرة الحركات، ولا تستصغر ذنبًا ظنهُ الناسُ صغيرًا. اجعل ميزانك مع الله قائمًا على إخلاصٍ وتوبةٍ وخشيةٍ، واطلب دائمًا القبول والثبات: فالجنةُ تُنال بقلبٍ سليم ونيةٍ صادقة، والنارُ تُتقى بخشيةٍ صادقةٍ وعملٍ يُرضي الرحمن. اسأل ربك أن يجعل أعمالك خالصةً لوجهه، وأن يعيذك من كل ما يوصل إلى عذابٍ في القبر أو سوءٍ في الآخرة.