تفسير سورة الأنفال
الدرس الثامن (سورة الأنفال)
من الآية (53-61) معاملة من نقض العهد ومن ظهرت منه بوادر النقض

في الدرس الثامن من سورة الأنفال تحدثت الآيات من الـ 53 إلى 61 عن كيفية معاملة من نقض العهد ومن ظهرت منه بوادر النقض بعد غزوة بدر، سنعرفكم على كل مايتعلق بهذا الدرس في بقية المقالة..
أولاً أهداف الدرس:
إن أهداف هذه الآيات من سورة الأنفال تشمل مايلي:
- التنديد بمن ينقضون العهود وبيان عقوبتهم.
- وجوب الإعداد لمقاومة الباطل بالوسائل المتنوعة.
ثانياً التفسير والبيان:
- (53) (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً…) ذلك التعذيب على الأعمال السيئة عدل إلهي فقد جرت سنته تعالى في خلقه واقتضت حكمته في حكمه ألا يبدل نعمة بنقمة إلا بسبب ارتكاب الذنوب فإذا لم يتلق المنعَمُ عليهم نعمته تعالى بالشكر والطاعة وقابلوها بالكفر والعصيان بدل نعمهم بنقمه جزاء وفاقا وهو كقوله تعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ).
- (55) (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ) نزلت في يهود بني قريظة الذين عاهدوا الرسول (ص) على ألا يمالئوا عليه فأعانوا المشركين بالسلاح واعتذروا ثم عاهدهم بعد ذلك فنكثوا ومالئوا المشركين عليه يوم الخندق وركب زعيمهم كعب بن الأشرف إلى مكة فحالف المشركين على حرب الرسول (ص) فهم شر الدواب لتماديهم بالكفر ورسوخهم فيه ولذا قال تعالى (فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون).
- (57) (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ…) فإن ظفرت بهم في الحرب فافعل بهم فعلاً من القتل والتنكيل تفرق بهم جمع كل ناقض للعهد حتى يثاقفك من ورائهم من أهل مكة وغيرهم يقال: ثقفه يثقفه صادفه أو ظفر به أو أدركه وشردت بني فلان قلعتهم من مواطنهم وطرتهم عنها حتى فارقوها.
- (58) (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً) وإما تعلمن من قوم بينك وبينهم عهد مشارفتهم نقضه خيانة منهم بأمارات تلوح لك كما ظهر من بني النظير فاطرح إليهم عهدهم (فَانبِذْ إِلَيْهِمْ) فاطرح إليهم عهدهم وحاربهم (عَلَى سَوَاء) على طريق مستوي ظاهر بأن تعلمهم بنبذك عهدهم قبل أن تحاربهم حتى تكون أنت وهم في العلم بنبذ العهد سواء فلا يتوهم أحد فيك الغدر أما إذا ظهر نقضهم العهد ظهوراً مقطوعاً به فلا حاجة لإعلامهم بالنبذ والنبذ إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به والسواء العدل والمساوات والوسط.
- (59) (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ…) لا يحسبن كفار مكة الذين نجو يوم بدر من القتل والأسر أنفسهم قد سبقوا الله فخلصوا من عذابه ونجو منه (سَبَقُواْ) خلصوا وأفلتوا من عذاب الله (إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُون) لا يجدونه عاجزاً عن إدراكهم أو لا يفوتونه قبل إدراكهم أو لا يفوتونه بل يدرككم بعذابه لا محالة يقال أعجزه الشيء أي فاته وقوله (إِنَّهُمْ) تعليل للنفي.
- (60) (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم) اعدوا لقتال أعدائكم ما أمكنكم من كل ما يتقوى به عليهم في الحرب وما روي من تفسير القوة بالرمي فإنما هو على سبيل المثال وخص بالذكر لأنه كان إذ ذاك أقوى ما يتقوى به فهو من قبيل (الحج عرفة) (والندم توبة) ولذا فسرها ابن عباس (ض) بجميع أنواع الاسلحة (وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) من ربط الخيل للغزو وخصت بالذكر من بين ما يُتقوى به لمزيد فضلها وغنائها في الحرب (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) تخوفون بهذا الاعداد أعداء الله وأعداءكم (وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ) من اليهود والمنافقين و(الرهب): مخافة مع تحرز واضطراب.
- (61) (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) إن مال الإعداء المحاربون إلى المسالمة والمصالحة والمهادنة والأمان فمِل إليها واقبل ذلك منهم ما دام فيه خير وصلاح بيّن للإسلام وأهله ولذلك قبل الرسول (ص) الصلح مع المشركين يوم الحديبية على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين مع ما اشترطوا من الشروط أما المصالحة على الجزية فلا تصح إلا مع أهل الكتاب لأن المشركين لا يقبل منهم إلا الإسلام.
ثالثاً/ الكلمات التي وردت في القرآن الكريم لأكثر من وجه
(سواء) وردت على ستة أوجه
- الوجه الأول: وردت بمعنى عدلاً قال تعالى (قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) وقال تعالى (وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاط) وقال تعالى (سَوَاء لِّلسَّائِلِين).
- الوجه الثاني: وردت بمعنى وسطاً قال تعالى (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيم).
- الوجه الثالث: وردت بمعنى أمراً بيناً قال تعالى (فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء) وقال تعالى (فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء).
- الوجه الرابع: وردت بمعنى مساواة قال تعالى (سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) وقال تعالى (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء) وقال تعالى (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء).
- الوجه الخامس: وردت بمعنى قصد قال تعالى (وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيل).
- الوجه السادس: وردت بمعنى تساوي الأمرين أو الحالتين قال تعالى (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ).
رابعاً/ أسباب النزول لهذه الآيات في سورة الأنفال
- سبب نزول الآية (55) (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ…) قال ابن عباس هم بنو قريضه نقضوا عهد رسول الله واعانوا عليه بالسلاح في بدر.
- سبب نزول الآية (58) (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء…) روى أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن ابن شهاب الزهري قال دخل جبريل على رسول الله (ص) فقال قد وضعت السلاح وما زلت في طلب القوم فأخرج فإن الله قد أذن لك في قريضه وانزل فيهم الآية.
خامساً/ وقفات مع الآيات في سورة الأنفال
- الوقفة الأولى: إن الآية (53) تقرر عدل الله في معاملة العباد فلا يسلبهم نعمة وهبهم إياها إلا بعد أن يغيروا نواياهم ويبدلوا سلوكهم ويقلبوا أوضاعهم وإن الله يجعل التغيير القدري في حياة الناس مبني على التغيير الواقعي في قلوبهم ونواياهم وسلوكهم وعملهم وأوضاعهم التي يختارونها لأنفسهم فيحقق التلازم بين العمل والجزاء في نشاط الإنسان وحياته وتصور عدل الله المطلق في جعل هذا التلازم سنه من سننه يجري بها قدره.
- الوقفة الثانية: عرض ما تضمنته الآيات (55-61) من قواعد التعامل مع المعسكرات المتنوعة في السلم والحرب والتنظيمات الداخلية للمجتمع الإسلامي وعلاقته بالمنظمات الخارجية ومن هذه القواعد ما يلي:
- القاعدة الأولى: أن الذين يعاهدون المسلمين ثم يخلفون عهدهم معهم هم شر الدواب يستحقون العقوبة الرادعة لهم.
- القاعدة الثانية: أن من حق القيادة الإسلامية أن تنبذ عهد المعاهدين الذين تخشى القيادة الإسلامية نقضهم للعهد عند ما يبدوا منهم ذلك.
- القاعدة الثالثة: وجوب اعداد العدة بمختلف أنواعها العسكرية والاقتصادية والبشرية والعلمية بأقصى الحدود الممكنة حتى تكون قوة المسلمين أعلى قوة في الأرض لترهب بها كل قوى الظلم والطغيان.
القاعدة الرابعة: أنه إذا جنح غير المسلمين إلى مسالمتهم فعلى القيادة الإسلامية أن تقبل منهم المسالمة وتعاهدهم عليها إذا تبين صدقهم وجديتهم
- الوقفة الثالثة: إن الآيات المشار إليها سابقاً تقرر إمكان إقامة عهود تعايش بين المسلمين وغيرهم ما أمكن أن تصاب هذه العهود من النكف بها مع إعطاء هذه العهود الاحترام الكامل والجدية الحقيقية.
سادساً الأحكام المستنبطة من الآيات في سورة الأنفال:
- الحكم الأول: حكم الله بأن الذين كفروا هم شر الدواب.
- الحكم الثاني: لا يجوز نقض العهد مع أي قوم حتى يتم التأكد من نقضهم للعهد.
- الحكم الثالث: وجوب الإعداد لمقاومة أصحاب الباطل.